الساعة الثانية عشر ظهراً
لا زالت جالسة مقرفصة تراقب الفرن المشتعل
وحرارته التي ادفأت عظامها المتخلخلة
بملابسها الشحيحة ومنديلها الذي تجمع به
شعرها في كومة فوق رأسها
ويديها التي تعمل في سرعة فعليها أن تنتهي من
الكمية قبل السادسة
وهي حتى الآن لم تصل لنصفها
طرقات على الباب انقذتها فها هي صديقتها قد
هبّت لمساعدتها
لتنادي عليها : ادخلي يا وداد
تدفع وداد الباب وتدخل مغلقة الباب خلفها
مُحيية صديقتها التي قالت بسرعة : بسرعة يا
وداد فأنا حتى اللحظة لم أُنهي نصف الكمية
وداد وهي تخلع عباءتها السوداء القديمة
وحذائها وتجلس مقابلة لصديقتها
: لماذا لم تخبريني منذ البارحة كنت جئتُك من
الصباح وهي تنظر الى العجين
وتنظر الى مريم التي تعرّقت تماماً من الفرن
ومن السرعة ومن التوتر
لترد : لم أكن أعتقد بأنني سأكون بطيئة ففي
كل مرة اشعر أن العجين يتكاثر
وداد : والآن ماذا علي أن افعل ؟
مريم : تشير الى كمية معينة : خذي هذه
وغمسيها في الشوكولا ثم في الفستق
بدأتا العمل بسرعة وهي في كل مرة تخطف نظرة
الى حمود الصغير
فها هو يلعب في إحدى الحُفر ماسكاً الأتربة
بيديه الصغيرتين
يجمع الحصى وينقله من مكان الى آخر واحياناً
على ثيابه
لتتحدث اليه : حمود حبيبي تعال إلى هنا واترك
هذه الأتربة من يدك
ينظر اليها الصغير ذو السنتين بعينين بنيتين
كبيرتين في وجهه الصغير الدائري
وفمه الصغير وشعره البني الخفيف فهو يشبه
والده كثيراً حتى ذلك البياض الناصع الذي يغطيه !
ينظر في وجهها ضاحكاً ضحكة بريئة ويحرك رأسه
يميناً ويساراً
تبتسم له : حمود تعال خذ هذه القطعة من
العجين والعب بها كفاك لعباً في الأوساخ
ينطلق لها في فرح وعينيه تشعان ، يركض في
اتجاهها ملتقطاً تلك القطعة ويجلس بجانبها ليلعب بها
فيما تنظر وداد لهما في محبة : يا له من طفل
جميل
ثم تهمس لمريم ناظرة الى اتجاه غرفة محددة :
وأباه ماذا يفعل اين هو ؟
تلتقط مريم انفاسها فهي مهمومة من هذه السيرة
ولا تحب التحدث عنها لتهمس بنفس النبرة : تعرفين يقضي وقته أين ومع من .. ومن ثم
ينام ولا يدري عن شيء أبداً..!!
تريد الحديث تريد افراغ كل تلك الطاقة
السلبية داخلها فهي تشعر بالوحدة والفراغ رغم كل تلك الأعمال التي تقوم بها تريد
ان تتحدث مع صديقتها عن مستقبلها فهي لا ترى اي تقدم ولا اي شيء يشير الى الغد فكل
يوم مثل سابقه وكل يوم تنتظر أن يتغير شيء ولكن كل شيء كما كان واحياناً أسوأ
تقترب من وداد وهي تزدرد ريقها خجلة هامسة :
احممم وداد الم تصلكم أخبار بعد عن أحمد ؟
تنظر لها وداد في رحمة متفرسة في تلك الملامح
فتاة في الخامسة والعشرين من العمر
قصيرة القامة
ضعيفة
حنطية البشرة بعينين سوداوين كبيرتين وشفتين
غليظتين
انف مدبب طويل
كان كل ما يميزها هو شعرها الاسود الطويل
الحريري
فهي لم يتقدم احد البتة لخطبتها
طبعاً فمن سيفكر في فتيات من هذه البيئة ؟!
حتى جسدها لا تبدو عليه ملامح الأنوثة تبدو
وكأنها فتاة صغيرة بذلك الجسد النحيل
إستطاعت أن تقنع اخاها بخطبتها وقبل ان تتم
الخطبة قبضت الشرطة عليه !!
فيا لحظك يا مريم !
لترد في تؤدة : لا نعرف ، لا نعرف اين اخذوه
ولماذا اخذوه ؟ الحزن يخيم على المنزل
أخي وليد يخرج كل يوم للبحث عنه والسؤال لكن
لا مجيب ؟!
تتنهد في حزن بينما غرقت الاثنتان كل في
افكارها
مريم تحلم بالحب والزواج والهرب من هذا
المكان الذي اصبح موبوءاً
اصبح مشبوهاً
بكل تلك النساء اللاتي يحضرهن أخاها معه كل
ليلة
فهو لا يتردد في قبض ثمن أعمالهِ المُشينة
فهذه قد أصبحت مهنته !!
تتحدث الى وداد : لن تصدقي الليلة الماضية
كانت كارثة
فالمرأة التي أحضرها خالد لم توفر صوتاً إلّا
وصرخت به
أنا نفسي من كنت في فراشي ضايقتني بشدة
بالكاد استطعت احتمال نفسي
جلست مكاني استغفر وادعو الله ان نتخلص من
هذه الحياة الى ان غفوت !
لترد وداد : يا الهي لا ادري أخاك من اين
يأتي بكل تلك النساء
ولتغرق في التفكير مع نفسها لا عجب فمن يرى
خالد ويرى مريم يقول أنه من عالم وهي من عالم آخر
فخالد جميل ببشرته البيضاء الناصعة يجعلك
تشعرين بأنه قد أخذ حماماً لتوه !
بشعره البني الناعم فهذه السمة الوحيدة
المشتركة بينهما
بلحيته السوداء الخفيفة وابتسامته الخلابة
التي تكشف عن اسنان ناصعة البياض
وعينيه البنيتين وطوله الفارع
بالإضافة أنه يهتم بنفسه كثيراً
فمن يراه لن يُخمِّن أبداً أنه يعيش في هذا
المنزل
فالمال الذي يقبضه من تلك النساء يصرفه على
هندامه ونفسه
فيما طفله وأخته يعانون الأمرين ..
ياله من اناني ..
شعرت بالقرف منه ومن افعاله المشينة فالكل في
الحي يعرفون هو ماذا يفعل
وفي ذات الوقت يحسدونه !!
الآن
يجلس على كرسيه بجانب النافذة محدقاً بالخارج
فيما سيجاره يذوي بين اصابعه
فهو لم يدخن منذ فترة طويلة
ولا يريد أن يدخن فقط كانت الطريقة الوحيدة
التي يتخلص فيها من توتره
واضعاً يداً على فخذه المصاب مفكراً قبل أن
تدخل الخادمة محدثةَ ضجة بحذائها
تتقدم ناحيته وكل دقة من كعبها تنبهه الى
وجودها أكثر
لم يلتفت
تنحني لتضع كوب القهوة الحار امامه
لم تفته تلك الإنحناءة بذلك الفستان الذي كشف
عن أعلى صدرها
بالغت في الإنحناء وعطرها قد تخلل كل خلية
فيه
فهذه الخادمة من أجرأ من استخدم حتى الآن
فهو لا يُعيرها انتباهاً رغم كل محاولاتها لإغرائه
نعم تملك جسداً جذاباً جميلاً
تملك صدراً ممتلِئاً
وساقين غليظتين
وخصرها الرقيق
ناهيك عن وجهها وزينتها
فهي تتصرف وكأنها احدى اصحاب البيت
تأمر وتنهي
ورغم كل ذلك لم يكترث
فهو منذ رآها يعيش في عالم آخر
تُغادر للمرة الألف يائسة
ينظر لها في شفقة لاوياً شفتيه ناظراً اليها
وهي تتهادى في مشيتها
ينفث سيجاره ناظراً مجدداً للخارج ليجتّر
عقله كل تلك الذكريات ..!!
نهاية المشهد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق