كلنا لاجئون

بنظرتها اللا مبالية ، و السيجارة تلتهمها ببطىء بين شفتيها ، تبرع ( جانيتا ) برسم أحلامها على الورق !
 # جلسنا متقابلتين هي تنفض السجائر بأصابعها بخبرة مدخنة ثم تضعها ثانية بين شفتيها ، بينما كنت اراقبها و بين يدي بطاقتها قلت لها :  (جانيتا ) لقد تغيرت كثيرا هنا تبدين ممتلئة و بصحة جيدة ، لألحق كلماتي بقولي متذمرة : كفى بالله عليك ستقتلين نفسك !
و كعادتها باللامبالاة ترفع نظراتها لي و تكرر نفض سيجارتها و هي تضحك مقهقهة : انا ميتة اصلا !
و بنظرة حنين تقول : انظري الي ذاك الطفل وهو يرضع !
كانت تجلس بعيدا عن طاولتنا أما تحمل طفلها بينما رضاعته في فمه يتجرع حليبها في نهم.
لم أملك إلا أن أراقب مراقبتها للطفل و لم أعقب ثانية على إطفاء السجائر.
 # كنت أشعر دائما حين أراها بالتعاطف ، لشدة نحولها و ظمور جسدها و ملامح وجهها الغريبة الذي أصبح بحجم قبضة اليد ، تتلاعب دائما بخصلات شعرها البني القصير و نظراتها لا تستقر على شيء كأنها تبحث عن المفقود ، تلك الأيام لاحظت إشراقة وجهها و تغير ابتسامتها لتصبح طبيعية مع ذاتها !
حين خرجنا للفسحة كالعادة رأيتها تجلس على حافة الحجر على الارض ترسم بطرف اصبعها خيالاتها بجوار قدميها ، رفعت رأسها لي تقول بابتسامة : انا انتظر مولودا !
ابتسمت فرحا و انا أقبل وجنتيها و جلست بجانبها منصتة و هي تقول بهمس : ليتها تكون بنتا !
وهل تريدين بنتا !
أحب البنات ، قالت
احمد الله أن حملت كي تتوقفي عن التدخين ، عقبت بشبح ابتسامة
رويدا رفعت يدها تريحها على صدرها تقول في صوت يميل للبكاء : هنا وجع !
إلهي ( عزيزتي جانيتا ) ما خطبك ؟ ،
تكرر ووجهها ينكمش ببؤس : هنا وجع !
لم نستطع التواصل أكثر بالكلمات فصمتت كلتينا !
 لعدة أيام طويلة غابت ( جانيتا ) ، دائما ما كانت تحركاتها مثيرة للتساؤل، كلماتها و لغتها الألمانية المحطمة بقواعدها الركيكة و المائلة للكنة الشرق اوروبية، دوران عينيها بحثا عن الكلمة المناسبة لمقالها أو بحثها السريع و تخبط اصابعها بشاشة هاتفها كي تريني كلمات ترجمتها للعربية.
حواراتنا كانت أشبه بالمعاقين بارتفاع الصوت و حركات اليدين.
حاولت افهامها أن ( وجعها )  لربما كان افتقاد جسدها للنكوتين الذي تتجرعه دائما في نهم و كانت دائما تشكك في رأيي بقولها : و لكنني لتسعة أشهر عند حملي الأول كنت ادخن فتضحد حجتي و أشير لها بيدي بأنها لا محالة تبحث عن وسيلة كي تعود ثانية إلى سجائرها.
عودتها كانت أشبه بقطعة جليد متحركة كان الجميع بلهجاتهم المختلفة يسألون عن حالها فترد بغير نية أنها بخير ، حتى إذا انتهى الدرس اتجهت لي لتقول بذات البرود : لقد فقدت جنيني !  و خرجت دون أن تدع لي الفرصة أن أعقب .
حين التفت لي زميلي الشديد التفحص للآخرين ليقول بهمس عراقي صرف : يا معودة انت ما شفتي رقبتها شلون زرقا اكو حد ضاربها !
رفعت يدي لوجهي لامسح عليه بقولي لا حول و لا قوة الا بالله .
 ربما تسآءلتم لما اكتب عن جانيتا ؟ وما يهمنا في جانيتا ؟ ولربما دار في خلدكم لما تروي لنا قصة امرأة غربية في مجتمع منحل لربما كان حملها الذي مرت به حراما ؟ وانا اتعاطف معها ! ،
جانيتا امرأة!
كغيرها من النساء في هذا العالم واللاتي مهما بلغت قوتهن يخضعن لقوانين الرجال .
جانيتا لم تتربى على قدسية الحياة الزوجية كما تربت على قدسية الزوج و أهل الزوج ! ، تربت أن الطلاق حرام و عار و أن تدفن نفسها في الحياة مع زوجها أفضل من أن تطلق و يطمع بها الرجال !
ستقولون كيف وهل من امرأة غربية تتربى على ذالك ؟
أقول نعم ، فجانيتا المعروفة بهذا الاسم هي ( فاطمة عصمان )  ، بوسنية الجنسية ، مسلمة ، ضائعة الهوية بين مجتمع أوروبي و إسلام لا تفقه منه شيء سوى بعض التشويش !! . و بضع كلمات لا تحسن نطقها كالحمدلله و ان شاءالله ، حتى الشهادة لا تعرف ماهي ، كل ما تعرفه أنها كبرت بين زوجة أب مسيحية أطلقت عليها اسم جانيتا وهي بعمر الثلاثة أشهر !
نعم فجانيتا لا تعرف عن أمها شيئا ولكن كانت دائما تقول وهي تحفر باصبعها السبابة على جانب صدرها الأيمن : ماما هنا وان لم ارها !
جانيتا تخضع لتسلط زوج و حما ، وكغيرها من المسلمات حتى وإن قتلها أهل زوجها لن تبلغ عنهم أو تؤذيهم لانها تخاف ( الفضيحة )
 حين كتبت لي ( فاطمة ) ورقة صغيرة لترميها لي أمام أعين الأستاذة التي أخذت تضحك و تقول ( جانيتا ليس هكذا لسنا بصف مدرسة ) : فتحت الورقة لأجد عبارات لم افهمها و قلبتها ذات اليمين و ذات الشمال وما وجدت كلمة افهمها كي اجاوبها ، حين كانت تنظر لي بفضول و أمل أن أحل طلاسم تلك الورقة .
في الفسحة ركضت تجاهي و هي تلهث و تقول : ها أليس لديك حل ؟
قلت لها حين أفهم ورقة السحر التي أرسلتها لي ربما أفعل !
ولكن كفكرة طرأت في بالي و بابتزاز قلت لها : حتى أن استطعت حل مشكلة ذالك الرقم فلن أخبرك قبل أن تخبريني ما حصل و كيف ومن اذاك ؟!!
استجابت دون ضغوط لكلامي وهي تروي شيئا فشيئا؛ ،'
كانت جانيتا تجلس كل مساء مع زوجها
ليس كي يتسامران أو يتبادلان كلمات الحب ! . بل كانت تجلس بمقابله كالطفلة في انتظار التقريع في أين و كيف و لما ؟!
وبما أنها لاجئة كغيرها كان لها راتب شهري يقدر ب ثلاثمائة يورو شهريا محاسبة حسابا عسيرا علاما صرفته و كيف صرفته ولما صرفته ؟!
لا عجب إذن أن تعاني من نقص في الدم أو النحول المميت أو عدم الرغبة في الطعام الذي أشك أنها تستمتع به !
جانيتا و دون معرفة زوجها اشترت هاتف و رقم هاتف لحماها ( والد زوجها ) ولم تدر أن هذه البادرة الطيبة ستودي بحملها !
حين كانت الفواتير تصلها كل شهر بمبلغ و قدره ، اصابتها الدهشة و الصدمة و الرعب اذا ما علم زوجها ، فأخذت في الخفاء تدفع فواتير الهاتف الذي كانت مبالغه فوق طاقتها و فوق احتمال راتبها البسيط و كله بسبب مكالمات اشتياق لمسقط رأس عمها الذي يتصل في اليوم بالبوسنة الف مرة!!
حين واجهته بغضب و هي تصرخ في وجهه في يوم مشؤوم يصادف فيه غياب زوجها لسفره خارج المدينة و تهديدها أنها لن تدفع فواتير مكالماته الهاتفية ، قد بلغ العراك أشده حين لم يقبل عمها أنها لن تدفع ( بسكات ) مصاريف هاتفه امتدت يده عليها ليصفعها فردت عليه بغضب بصفعة صدم منها ، و ساعتها لم تدري جانيتا ما فعل بها إلا أنها قد رميت على الجدار و ارتطام جسدها بقوة على الارض أو الضربات المتلاحقة على وجهها ، لم تستطع الدفاع عن نفسها و بعد ساعة غفوة و خلو البيت من مجرم معتد قامت جانيتا للحمام كي تفرغ جنينها في قلب تواليت البيت .
لم تبلغ و لم تخبر أحدا بما فعل حماها و أخبرت زوجها ( كاعذار المسلسلات الغبية )  و التي لابد وأنها تتفرج عليها كثيرا أنها قد سقطت من الدرج !
غبية هي جانيتا و كما هي كثيرة الحريات هنا بكل أنواعها المعتدلة و الشاذة كان باستطاعتها أن تتخلص من عمها بلمح البصر و بإثبات انه مجرم و قاتل فليس هنا أسوأ من عقاب رجل يسيء لامرأة .!
رغم غضبي الشديد منها و من غباءها و ضعفها و تهديدي أنني سابلغ عن أي أحد يمسها بسوء خصوصا حين تقوم بإلغاء عقد الهاتف و كون الرقم سيصبح في حكم المعدوم ، اتجهت بها ببساطة لمحل الهواتف و الغينا عقد الرقم مع دعاءها لي و قبلاتها على خدي و احضانها و دموع عينيها بقولها : اشكرك كثيرا جدا جدا يا إلهي ما كنت سافعل بدونك ؟!
قلت لها فلنرجيء شكرك حتى حين نرى رد فعل حماك على فعلنا هذا ربما عندها سأقول : رحم الله امرأة كنت أعرفها كانت غبية !
انهينا مشوارنا بابتسامات و إلى حين أن أراها ثانية .

#كلنا#لاجئون

الجزء الخامس و الأربعين

  أشعل سيجارة.. من أخرى أشعلها من جمر عيوني ورمادك ضعه على كفي .. نيرانك ليست تؤذيني كان يستيقظ هذه المرة بلا كوابيس ، بلا اجهاد ، المرة الو...