الجزء السادس و العشرين







الجزء السادس و العشرين


مصيري الاصفر حطمني

حطم في صدري ايماني

أاسافر دونك ليلكتي

يا ظل الله بأجفاني

يقدم احترامه ، تستحق منه ان ينحني لها امام ما عرف عن حياتها

تلك القبيحة كما يسميها اخيرا استحقت احترامه ، أراد ان يسأل عنها و ان يبحث في تاريخها وفي الحقيقة لم يجد شيئا ، سوى انها جاءت الى المدينة منذ اربع سنوات لا احد يعرف من هي تماما و اين عاشت و لما تعيش وحيدة !

اغلب حيها حقيقة لا يعرف اسمها هم فقط يشاهدونها كل يوم وهي تخرج و تحاول دفع سيارتها كي تذهب ثم ترجع الى البيت قرابة ما بعد العصر

ينظر الى انعكاس عينيه في المرآة نعم انه يحترمها فهي رغم ظروفها الصعبة لا تشكي ولا تندب حظها بل فقط تجري على لقمة عيشها ، تقف في مواجهة الحياة وحدها كمصدات الرياح العتية ليست مثل شقيقاته مدللات و بين ايديهن العالم كله ان رغبن ،

لم يغب عن باله لقائهما قبل ان يغادر المدينة

دخلت ما بعد صلاة المغرب ، وضعت المفتاح في القفل و فتحت الباب ثم ولجت الى الداخل هناك سقط قلبها بين ساقيها حتى فتحت عينيها مهابتا ورعبا، ثم رويدا استوعبت امرها ، خذلها جسدها الذي طالما حملها في اوقات اصعب من هذه ، هذا الجسد الذي تحمل تبعات رحِم حمل بها يوما و رماها بين طرقات الحياة تدفع عنها كل الصعاب و العراقيل و تدافع عن نفسها وعن فرصتها الوحيدة في الحياة نعم تدافع

هي خُلقت هنا كي تدافع ،

هي بنت الارض ولن تستسلم ابدا مهما بلغت حجم التهديدات التي تصادفها ورغم ذلك هو ، هذا الرجل الذي دخل حياتها ولم يعد راغبا بأن يخرج منها إلا براية شرفها ترفرف فوق رأسه او بروحها الذي يقتلها على مهل لا يوجد شيء وسط بينهما ،

اغمضت عينيها في أسى و ضغطت بشدة عليهما وهي تتابع طريقها الى المطبخ ترمي الاكياس التي اشترتها للتو على الارض بلا اكتراث حتى طار كل شيء خارجها ، انتثر الخبز و تفرقت حبات الطماطم و الخيار و تكسر البيض الموضوع في كيس صغير به خمس حبات

رأت كل ذلك ولم تأبه فالتعب و العتب على الحياة قد اثقلا كاهلها

ثم تجلس مستندة على الخزانة المتكسرة تضم ساقيها الى صدرها و تضع رأسها بينهما

تشعر بسخرية القدر ، ألن يحترمها ولو قليلا ... لا ليس المؤيد بل القدر ، ألن يمنحها فرصة حقيقية تتنفس منها حريتها ؟!!

لما مكتوب عليها هي ان تعيش هذا الشقاء ؟!

ان ترجع ببساطة من عملها الذي يكسر لها ضهرها و يحطم رقبتها و يعوج بسببه عمودها الفقري و تأن منه ساقيها و تتشقق منه يديها و يتفحم منه وجهها ، ترجع فقط تتحمم و تجلس في سعادة تشرب كوب شاي و تأكل خبز بالجبن ، فقط هذا ، لا تريد بهرجة ولا فخفخة ، فقط ان تجلس لوحدها كما كانت او تدق عليها ابنة جيرانهم الصغيرة فيقضين الوقت سويا يشاهدن افلام الكرتون !

الحياة تستخسر فيها كل شيء حتى راحة البال التي سلبها لها هذا الذي يجلس على الاريكة خارجا يلف ساقا على الساق ولا يدري انه في يوم سيكون الى ربه المساق !

حذاءه فوق طاولتها الصغيرة و يقلب في قنوات التلفزيون المظلم !

حتى وقع جسده الثقيل امامها مباشرتا يجلس منحنيا على ركبتيه يمد يده الى وجهها يرفع ذقنها ، تضل تنظر ببؤس الى عينيه ، الى كره ، الى قلة حيلة ، الى يأس ، ان توصل له بعينيها مالم يصله بالكلام حتى نطق بهدوء : ما بك

ناء عن حنجرتها صوت ضحك او استهزاء مقيت متقرف ، ما بها ؟!!

أيسأل ما بها ؟

كيف ؟

لا تصدق حجم الوقاحة التي يقابلها بها حتى انها تستطيع ان تقول انها هي الضيفة وهو المالك ، انها لا حق لها في الاعتراض !

هجمت على شعرها تدعكه دعكا عنيفا وكأنها اصيبت بحالة جنون حالة انفصال عن الواقع تهيم بعينيها في كل ركن من هذه الارض التي تحملها

نظرت الى عينيه أخيرا مضيقة عيناها المحمرتان و الدموع تترقرق فيهما تأبا النزول و مخالفة اوامر عزة نفس سيدتها ، نطقت مبحوحة من صدمتها : من اعطاك الحق ؟!

مالذي تريده مني

انظر الي جيدا نعم انظر

انا كما انا ولن يتغير شيء

الملابس مهترئة قديمة حتى ان احدى جاراتي تعطني ملابسها كلما ملت منها ، ليس عندي سوى حذاء واحد رقعته اكثر من الف مرة ، جسدي ذابل و متعفن صدقني متعفن حتى انه لا يطيق نفسه ، لا يوجد به اي مقومات انثى قد ترغبها نفسك ، شعري لا اغسله الا مرة كل جمعة حتى لا اصرف على مواد الغسيل ، طعامي جاف ، جمال ليس هناك جمال بل قبح متجذر حتى روحي

انظر الى عيني حتى بالكاد ارى بهما ، انظر الى انفي ما اطوله ، دقق في حاجبي الكثيفين و لا نتغاضى عن اسناني المعوجة المسوسة ، هل تريد هذا ؟ هل هو طموحك اذن انت رجل فااااشل فاشل !

ماذا تريد مني اختصر علي الأمر انا تعبت ، نفسيتي قد تعبت منك صارت رؤيتي لك تجبرني على الانتحار اتفهم ان اقتل نفسي بسببك !

كان منصتا لكل كلمة وكل حرف تنطق به لكنه وسع عينيه في وجهها : يا الهي كم انتِ ثرثارة !

جلستك هذه لن تفيدك بشيء !

سيدي ، انا حتى لا اعرف اسمك ، لا ادري من اعطاك الحق ان تحتل بيتي ان تدخله ساعة تشاء وتغادره متى تشاء !

سألها في وجوم : تهتمين لكلام الناس !

نطقت بعد ان ضغطت على شفتيها و عينيها تنقلب في هذا المكان الصغير الذي يجمعهما : لا اهتم بكلام الناس ، انا اهتم لراحتي النفسية ، قلبي يطرق في صدري و ينخزني كالمسامير كل مرة اراك فيها كرهتني في هذا السقف الذي يأويني والله كرهته

سيدي اختصر على كلانا و قل ما تريد

رفع حاجبه معترضا : لا اريد شيئا !

هه قالت و ادارت رأسها بعيدا عن عينيه ثم ادارته له مجددا وهي تلعق شفتيها : اتدري المرة الماضية سألتني لما لا يوجد عندك مرايا !

الا تريد معرفة الجواب

قال وهو يغضن جبينه : لا !

اصرت وهي تفتح عينيها في وجهه : بل نعم ، لأنني ارى نفسي في عيون الناس ، في وجوههم ، في نظرة القرف في التواء شفاههم في همساتهم في ابتعادهم في تجنبهم لي فلربما افسد عليهم اخلاقهم البريئة !

انا وانت ، تمعن جيدا في كلينا

في موقعينا

مدت يدها كفها بينهما كمن تعرض عليه صورة

انا انعكاسك ، لكن بالمقلوب ، انت واضح ابن عز و جاه و سلطة و مال و الدنيا بين يديك بل تركض لك ركضا كي ترضيك ، وانا ابنة الميتم حتى انه لا حق لدي في معرفة الرحم الذي لفظني على وجه الحياة !

انا وانت ضدين انت فوق وانا تحت ، معادلة الحياة الغير منصفة دائما ، فالناس امثالي الطيبون الذين في حالهم تطحنهم الدنيا حتى ينحنوا و يصبحوا تحت الاقدام ، وانت تولد ابن عز ترفعك الدنيا لتكمل عزك حتى النهاية ، معادلة لن تتغير ابدا بين الاغنياء و الفقراء ، من عاش فقيرا يموت فقيرا !

لما تترصدني لا اعلم ، هل تتسلى بي ، هل تريد ارعابي ، هل تريدني ان اكره الدنيا فأنا اهنئك لقد نجحت في كل شيء تريد ايصاله لي صدقني لقد كرهت حياتي بسببك !

وضع يده فوق فمها يخرسها ووجهه ينفجر غضبا : كفى كفى اصمتي الن تسكتي تبا لك ماهذا كله انفجرتي مرة واحدة ، رسم دائرة في الهواء يقول مغايظا لها : انا كل هذا لا يهمني كل ما تقولينه عن مأساتك لا يهمني ، انا ارى اللحظة ، ارى الحاضر وانتِ غارقة في ماض تعيس ، ألن تحبي ان تعيشي من الدنيا كم يوم كم ساعة او حتى النفس الاخير فيها !

كانت ساكنة حتى ويده فوق وجهها لم تعد تكترث حقيقة في اين سيضع يده ابدا لقد ملت ملت

ابعدت يده بهدوء : لا تتحمل الحقيقة ام انك لا تعرفها ، قل لي الان ماذا تريد مني او اخرج ولا ترجع مرة اخرى !

هنا وقف على ساقيه واضعا يديه في جيبيه رافعا حاجبا معارضا : تظنين بكل تلك المحاضرة التي القيتها ستؤثرين بي ، لقد اخطأتِ تماما ، ثم ما اريده منك قلته لك في اول لقاء كان هنا في بيتك ولكن اريده بإرادتك !

رفعت رأسها تبتسم ابتسامة جانبية هازئة تلوي بها شفتها جانبا : اخ يا الهي كم انت وقح ، بإرادتي ، هل تحلم ؟!! لا ادري ما تخرف، حقا انك حقير !

طأطأ رأسه لها : سمني ما شئتِ فكري جيدا في عرضي ، سأعوضك عن كل شيء عن الملابس و المال و الحياة وكل شيء

: هههههه ضحكة عالية خرجت منها دمعت منها عينيها آآآآآآآآآه يا الله صرخت غير مصدقة : تريدني عشيقة !

ضيق عينيه فيها : لما لا !

هزت رأسها مرارا ومرارا و مرارا هزا رافضا : انت تحلم

بل هذه المرة وقفت على ساقيها تواجهه ، هي من كانت ترتدي بلوفرا ابيض اللون يعكس لون بشرتها الداكن ، و بنطالا من القماش البني الذي تغير لونه وبهت كثيرا يبدو جد قديم ، و شعرها الذي تتركه دائما غجريا ملتفا حول نفسه مرميا حتى ظهرها : هل تدري ماذا كان يحدث في الميتم ؟!

فتحت عينيها الكبيرتين في وجهه كالمجنونة : كان الرجال يأتون ينتقون من يريدون من فتيات ، يغرقونهن بالمال و الملابس ، حتى تعودن على تلك العيشة ، حتى تمردن ، حتى صرن عاهرات و مجرمات ، صرن يدخن الحشيش و السجائر و الكوكايين ، صرن لا يأبهن لأي أحد ، تعلم كم افسدهن المال حتى غرقن حتى انوفهن ؟!!

عندما نخرج من حياتنا البسيطة نحن فئتنا نحن معرضة اما للموت او السجن او الاجرام هذا ما حصل مع اكثر من فتاة كانت معي لم تعرف كيف تتصرف في حياتها بعد ان اغرقها كل قوادين البلاد في المال ، ملابس واشترت اكل واكلت ذهب ولبست سيارات وركبت دلال وتدللت

ماذا بقي لها .. الفراغ .. بعد ان يتركوها ثم الجريمة و الانحراف ستبحث عن كل ذلك مجددا في كل احد وفي كل رجل سيقابلها لن يهمها امرها بعد الان المهم هو المتعة ... المتعة !

هذه الحياة لا اريدها لا اريد مالا ولن اكون عشيقة وافضل الموت على ذلك .

صارا يحدقا في بعضهما البعض ، في عينيه لمعة و استهزاء وفي عينيها اعلنت التحدي : تعلم ، في هذه الدنيا واحد منا فقط سيعيش اما انا او انت !

لأنني اتمنى موتك ، اغلقت عينيها بغيظ صادق و صكت اسنانها ببعضها البعض انا اكرهك واريد موتك عسى الله ان يخلصني منك على اهون سبب عساه يبعدك عني ايها الشيطان عساه يأخذك الى الجحيم عساك ترى ما تفعله بي في أعز من تملك !

جرت دموع الوهن والمذلة على خدها وهي ترميه بشرارها ولكنه يقف هناك بوجهه السمح و لحيته المتدلية و رأسه خفيف الشعر و حاجباه المتغضنان و شفتاه المزمومتان لا يوليها اعتبارا بل لا يدخل كل ما قالته الى عقله فهو لا يسمع الا صوت نفسه اما ضميره فقد وضع اشارة قف في طريقه منذ زمن بعيد فلا اي من هذه المشاعر الحاقدة التي تخرج منها تهمه في الحقيقة فما يهمه هو ما ترغبه نفسه وفقط هو ما تشتهيه نفسه وفقط وهي قد اشتهتها نفسه هكذا بكل بساطة في كل حساباته

اعطاها ظهره وعرج على غرفة الجلوس اخرج من جيب بنطاله رزمة من المال رماها على الطاولة و قبل ان يخرج قال بكل برود قتل فيها الروح : كلي جيدا فعندما اعود لن احب ان اركِ نحيفة فأنا لا احب النحافة ، اكمل طريقه الى الباب و خرج وتركها هي فاتحة فاها و دمعة خانتها و نزلت تجري على خدها : أحقا ستكون الذبيحة بعد تسمينها !!

هو الان قرابة الحدود مع السودان في الطريق الصحراوي ، هنا حتى الحي لا يسمع صوت نفسه حتى يده ان رفعها لا يكد يراها ،

هنا تتم العمليات التهريبية بين الحدود سلم واستلم ، عليه ان ينتظر الاشارة وهي سيارة صحراوية يركبها ضابط سوداني يشعلا الانارة على تمام الساعة الحادية عشرة و احدى عشرة دقيقة تماما لبعضهما البعض من مسافة مائة متر لكلاهما من على الحدود ، في حال رأى الاشارة تعبر الشاحنة الحدود السودانية الى الحدود الليبية و تضل سائرة في طريقها حتى يصل الى المدينة !

كان هناك الان الساعة قاربت على الحادية عشرة ، احدى عشر دقيقة اخرى و يتم الامر ، ارخى عضلات عينيه قليلا كي يسترح اخرج زجاجة ماء و رفعها بعد فتحها الى فمه يشرب حتى ارتوى ، ضل يحدق في الظلمة ثم نظر ثانيتا الى ساعته دقيقة واحدة فقط ، نظر باستقامة الى حيث المكان الموعود ، مرت الدقيقة ثم لحقتها اخرى فاخذ القلق يستفحل في عقله ، هنا بالكاد يجد اشارة للهاتف ، لا يستطيع ان يراسل اي احد ولا ان يهاتف اي احد ، هي اشارة فقط اشارة و يذهب و تلحق به الشاحنات التي تعرف طريقها جيدا ، والمواعيد السابقة كلها كانت حسب الاتفاق لم تشبها شائبة ، هنا اضطر ان يخرج من السيارة على قدميه يستطلع الأمر ، قابلته الريح الباردة في هذا الوقت في الصحراء صوت ريح يخرم له اذنه و تتطاير منها أطراف ملابسه اصابته قشعريرة فقرر الرجوع والانتظار في السيارة أفضل له وفي تلك اللحظة انهال عليه رصاص كالصواعق صوت رددته الصحراء حتى يخيل لك ان الارض قد زعق فيها ملك من السماء جرى الى باب السيارة و فتحه بسرعة و رمى نفسه في الداخل ، اخرج على عجل رشاشه الذي بجانبه و من تواريه خلف الباب اخذ يضرب هو الاخر هدفا لا يراه ، تم تبادل النيران لساعة متوالية ، صلي متواصل ، شيء تخرم منه الاذن و تسقط منه الحامل جنينها تغربلت سيارته غربله حين اخذ حشد من السيارات يحدث عاصفة صحراوية ترابية وهي تجري تقطع المسافة التي بينهما حاول ان يشغل السيارة مرارا و قلبه يدق بعنف داخل صدره ، تبا لقد وقع في كمين ، اضاءة السيارة لا زالت مشغلة و العجلات قد ماتت في ارضها و السيارات المهاجمة تتقدم

انتفخ وجهه من الغضب و اسود و ازرق من الخيانة فلم يجد وسيلة يدفع بها عن نفسه الشر سوا ترك المكان و الجري خارجا حاملا معه سلاحه و منظار ليلي

اطفأ كل شيء حتى غمرت الظلمة المكان و ترك ساقيه للريح في هذا المكان الذي لا يعرفه حتى الجان ، كان صوت سيارات الهجوم يصرصر عاليا و رصاصها يخرج منها بلا حساب وهو لا زال يجري محاولا التغلب على ثقل الرمال التي تعوق جريه و الكثبان العالية التي يحاول تسلقها الان بهذه الملابس وهذه الهيئة كان الالم والعرق قد بلغا منه مبلغا و اللهاث كان عاليا و الجبين يتعرق بغزارة و قلبه يجري في مضمار سباق لا يعرف ما يحصل ولا من هاجم ولا كيف تم الغدر به كل ما يعرفه الى اين الان

حين وصل ذلك الرتل المدجج الى السيارة اضاءوا المكان من كل ناح صارت الاضاءة مسلطة فقط على سيارته المرسيدس العالية ذات الدفع الرباعي التي اخترقها الرصاص من كل مكان حتى ما عادت تصلح حتى للبيع في سوق الرابش ، خرج احدهم ملثما بعمامة كبيرة يلفها فوق رأسه و يحيط بها وجهه يوثقها خلف عنقه ولا تظهر منه سوى عيناه السوداوين وسط وجهه الاسود يرتدي بذلة عسكرية مموهة وفي يده يحمل رشاشا موجها الى من في داخل السيارة ، زادت سرعة الرياح و معها شدة العاصفة الرملية فأخذت تلف نفسها حولهم هؤلاء من اعتدوا على رجل في بلاده وعلى حدوده بل ويريدون قتله نطق احدهم : السيارة خالية لابد انه قد هرب الى التلال

صرخ احدهم كي يسمعوه : الشحنة الان لدينا لا داع لقتله اتركه سيهيم في الصحراء حتى يموت متيبسا فيها فلن يتحمل هذا الجو ليلا ولا الحرارة نهارا ،

كانت لوحات السيارات و الاعلام التي فوقها تشير الى المعارضة السودانية ، تبا ، هذا ما رآه من منظار الرؤية الليلية ، لابد ان هناك من وشى به وبصاحب الشحنة التي تصلهم من الجيش السوداني ، تبا تبا اخذ ينطق بغضب و حقد و هو يراهم الان يربطون سيارته بحبال ثم يحاولون جرها وراءهم ،

اغمض عينيه بصبر وهو يقول اللعنة تبا لا لا لا الان سيكون كليا وحيدا هنا اللعنة لا يملك ما يغطي به وجهه و يحمي به جسده و الشراب و الاكل في السيارة و في يده مالا يسمعا ولا يبصرا المنظار و الرشاش ، سقط على ظهره يغمض عينيه بقوة من شدة الرمال التي تضرب وجهه كالصفعات المتتالية بلا حساب يبصق بقوة وغضب ما يدخل الى فمه فلا يكاد يفعل حتى يمتلأ فمه مجددا

هو كان صنديدا حتى هذه اللحظة لا زال يتماسك لا زالت في روحه بقعة أمل أن يتخلص من هذا الوضع ، التفت مرة اخرى الى حيث رجعت السيارات من حيث أتت تاركتا اياه يتخبط في رمال الصحراء استلقى من جديد واضعا مرفقه فوق عينيه ليس كي يحميهما من هجمة الرمال المتصاعدة وكأنها مارد سيبتلعه ، بل من اجل الدموع التي خانت رجلا مثله و تجمعت في عينيه تدميها

يعض على شفتيه يكبح جماحها لا لن يبكي هو رجل عاش رجل و ان اقتضى الامر سيموت رجل هكذا هو الامر وهذا هو الاتفاق في العائلة التي وهب نفسه لها و خدمها بروحه ،

كأن الطبيعة كانت تستخلص حقها منه وصوت دعائها يصم مسامعه وكأنها تقف فوق رأسه تدعو عليه بالموت ، ربما نعم الموت يقترب ربما استجاب الله لدعائها فالنفس عنده قد كتم ولا يستطيع ان يستنشق الرمال فتغلق له رئته وهنا تمنى امنية واحدة فقط هي / ألا يموت في الصحراء مثلما مات البراء !

في مكان ما في اوروبا

جلس وامامه جماعته الذين يدخنون و في ايديهم كؤوس النبيذ يشربون ويتسامرون ، وهو يحمل سيجارا يدخنه بلا رغبة حقيقية كان السيجار فقط كي يتفشش كي يضع كل غيظه فيه وكي يخرج كل غضبه من صدره المكتوم يقلب في شاشة هاتفه يضيق عينيه حتى سأله احد رجاله : معلم أمتى راح نرجع ع بريطانيا لك طق قلبي هون !

نظر له بطرف عينه يستحقره عادتا فقال من بين اسنانه : لك العمى بقلبكن العمى لك ما بتعرفوا تسكتوا انتوا ، انا ما راح ارجع تحتى يجي هالابن الكلب ، لحتى شوفه مقطع شقف لحتى اشفي غليل هالسنين اللي اترميت فيا في السجن بسببه

: طيب وازا ما اجى ؟!!

: راح يجي راح يجي اكيد الرسالة وصلتن وعم تنافسوا مين را يجي منن هاولادين الكلب والله لأندمن عيشتن والله

وجه يده الى صدره يحني كتفيه بلا تصديق : لك انا طلعتوا من مشاكلوا كِلا ، لك انا اللي دعمتوا وشغلتوا هالحقير ، لك انا اللي رفعت عيلتوا ، انا يعمل فيني هيك انا ايميل اللي لعب بريطانيا كلا على الشناكل هيك ينعمل فيي انزت لاكثر من اثناشر سنة على الحبس اتبهدل و اتمرمر لك والله لادفعوا التمن غالي والله

تنهد احدهم وهو يشرب : طيب معلم ليش ما تطالبوا بمصاري وخلص يعني الاكيد انو ما راح يطب البلد ، فلو صار ليش ما تاخذ حق سجنك مصاري مو احسن !

اطفأ سيجاره بسرعة وغل : لك لا لأ العمى بقلبك كيف بدك ياني اسكت عن سنين عمري اللي راحت بين المجرمين كيف و بين اربع حيطان ، لك والله اقل من روحه ما راح اطلع والله

نظر الشبان الى بعضهم البعض منهم من يرفع حاجبا متعجبا واخر متسليا واخر لا يعجبه الامر : يعني ما يكفي انا قتلنا مرتوا للزلمة و هو رميناه من فوق والاكيد عطاك عمره ، لك اخذنا روح من عيلتوا ليش بقى بدك تقتلوا ، استفيد منو احسنلك

قام من مكانه تاركا كل كلامهم خلفه و الحقد يسيطر على نظراته التي تنظر متأملة الى المستقبل القريب الذي سيراه فيه :ما راح يكفيني حتى لو طلعت بروح عيلتوا كلا ، والله ما راح اطلع الا بروحك يا آيدين والله !

عن تلك الفتاة الجديدة التي قامت الان من نومها ، تفتح عينيها و تضل تحدق في السقف ، تحدق طويلا ، تفتح عينيها ثم تغمصهما ثانيتا ثم تفتحهما ثم تدور بيهما ذات اليمين و ذات الشمال ، تضع اصبعين تحت فكيها تدلك المنطقة بلطف ثم ما تحت حاجبيها ، انتقلت الى جانبي عينيها دلكتهما ثم الى ما فوق رقبتها ، لفت رأسها يمينا ويسارا ، ثم اعتدلت في جلستها

تسمع صوت خطوات ، رفعت رأسها الى السقف و غضنت جبينها و هي تحاول ان تجمع شعرها وتلفه الى اعلى رأسها ثم تصيخ السمع حتى سمعت الخطوات مرة اخرى ، خرجت من فراشها وبجامة النوم تتهدل على جيدها الرفيع مشت ببطء الى ان وصلت للحمام هناك تحممت جيدا و فرشت اسنانها حتى قطعت صوت المياه و الخطوات تتكرر على مسامعها فتحت عيناها و هزت رأسها بتؤدة ثم اكملت الحمام و تعطرت و مشطت شعرها وتركته كما هو بلا تجفيف و عادت الى الغرفة كي ترتدي ثيابها ، هذه المرة ارتدت تنورة حتى ساقها ذات لون عاجي و بلوزة باللون البرتقالي ثم ختمت ما تلبس بحذاء رياضي اسود ، كان المتء لا زال يقطر من اطراف شعرها المتناثر على ظهرها حتى بلل بلوزتها و وصلت برودته حتى ظهرها ، خرجت من الغرفة وهي تدعك كفيها ببعضهما بعدما دهنتهما بكريم نيفيا المرطب ، كان الممر هادئا جدا ، الوقت الان الساعة الثامنة صباحا ، لم تسأل تماما حتى الان متى يقومون ومتى يجلسون سويا ليفطروا ، ولكنها لم ترد ان تذهب للأفطار ، بل غيرت وجهتها الى الاعلى ، الى حيث الطابق الذي لم تره حتى الآن

صارت تقطع المسافة حتى ارتقت الدرج و تصميم الفيلا كان قد تغير تماما عما في الطوابق السفلية ، هنا ردهة كبيرة جدا في الوسط و مطبخ في زاوية منه و كراسي و صوفا امام الشباك الكبير جدا و مكتبة بيضاء و العديد من انواع الاشجار و نباتات الظل ، كانت رائعة شهقت من جمالها ، هناك ثلاث ابواب و هناك ممر واحد ، حسنا صوت الاقدام او المشي كان يصدر من الغرفة التي فوق جناحها تماما لا تعرف لمن هذا الجناح ولم تسأل و لكن يثيرها الفضول كي تعرف من الذي هنا فبحسب علمها كل سكان البيت بمن فيهم يحي يقطنون الطابق الثاني بما ان الطابق الاول هو للجلسات العائلية و الالعاب و السباحة و غيرها مما رأت !

ظهر التعجب على سحنتها البريئة الجميلة الرائقة ، فلا يوجد حقا ما عيكر صفوها سوى تلك الذكرى في ليلتها مع يحي !

نفضت كل شيء من رأسها وهي تقف امام الباب و تمد يدها وتفتحه

كانت شقة كبيرة مذهلة المنظر و ذات رائحة عطرة جميلة لفت رأسها كبداية في كل مكان ، الهدوء يسيطر على المكان ، خطت خطوات سهلة تتقدم فيها رويدا مكتومة الصوت تلف رأسها فيلتف شعرها معها ثم تقع بعض الخصل المبللة على جبينها كانت الغرف مشمسة و نظيفة ومرتبة حتى جذبتها حركة خفيفة اتجهت ناحها وهي تقدم رأسها عن جسدها كي ترى ماذا يحصل فإذا بها ترى فتاة قصيرة ناعمة جدا سمراء بحلاوة ذات شعر اسود فاحم ناعم لامع قصير حتى عنقها و ترى بروز شفتها المغرية من جانبها ، ترتدي قفطان نوم قصير حتى ركبتها و تبرز منها سيقانها الممتلئة المتناسقة ورجلها الصغيرة كانت تقف هناك مواجهة لدولاب ملابس تخصها تحاول ان تفك عقدة احدى ملابسها الداخلية التي بين يديها فبدت منشغلة لدرجة لم تسمع اي صوت يتقدم ناحها حتى خرجت من بين شفتي ديالا ريح هبهبت عند رقبتها

قفزت مفزوعة مرعوبة مفتوحة العينين قلبها ينبض برعب حتى وضعت يدها على صدرها تتاخر خطوة في وقفتها و تغمض عيناها الما

كانت ديالا واقفة تنظر الى تلك الحسناء يا الهي جمالها جمال امرأة بدوية مثيرة خاصتا عينيها كانتا كبيرتين و سوداوين و حاجبيها عريضين يبرزان جمال اهدابها المتعانقة معهما و انفها مدبب صغير

كان الروع لا زال يحتل سحنة السمراء القصيرة و بالكاد تجد صوتها

حتى رفعت يداها تلفهما حول رقبتها تحاول ابتلاع ريقها الذي تيبس في منتصف حلقها ، شحب وجهها الجميل وهي تنطق : من أنتِ ؟

الاخرى التي تقابلها متسلية بكل الانفعالات على وجهها : أنا لم ارك سابقا هنا في المنزل و لم يأتي احد على ذكر ان هناك احد آخر يعيش هنا في هذا الطابق ! رفعت حاجبها تساؤلا : غريب اليس كذلك !

كانت السمراء تتطلع بعينيها المفجوعتين تهز رأسها هزا خفيفا تحاول ان تتمالك نفسها فلا زالت رعشة قلبها تهز جسدها ولا زال خوفها قائما : أنا نجلا زوجة شعيب !

ابتسمت ديالا ابتسامة صادقة في وجه نجلاء تمد لها يد مرحبة : وانا ديالا !

قررت نجلا ء الجلوس على الصوفا التي خلفها فرجلاها ما عادتا تحتملا الوقوف راحت تلف يدها حول جذعها : ديالا مالذي جاء بكِ الى هنا الى هذا الطابق !

جلست الاخرى جانبها و شعرها يميل الى الجانب الايسر وهي تنظر الى وجه نجلاء الشاحب : سمعت صوت خطوات فالطابق هنا هو فوق جناحي تماما !

طاطات الاخرى رأسها في تفكير عميق ، سرحت في البعيد ، حتى اللحظة حتى هذه الساعة لم يعرف احد بوجودها هنا معهم في بيتهم ولا حتى هو ، ولا تريده ان يعرف اصلا انها هنا وكيف وصلت قالت في جمود : ديالا لا تخبري احدا انك رأيتني ارجوكِ!

ردت عليها ديالا في تفهم : طريقة وجودك هنا وعدم ذكرك في المنزل يعني انكِ مختبئة ، مختبئة من احدهم !

التفتت لها نجلا تلتقط نفسا تتفرس في وجهها الجميل جدا ، لا تعرف من هي ديالا ولما تقيم في المنزل ربما هي قريبة لهم !

: هل لي ان اعرف ممن تختبئين !

كانت النظرات فقط التي تعبر بينهما ، لا ، فنجلاء لا تريد اي تهديد من اي احد ولا من اي جهة ولا تريد ابتزازا ، فكلما عرفت هذه الفتاة المزيد عنها ربما ستخبر الجميع في البيت وتصبح هي في خبر كان مع زوجها على الاقل !

: قد هربت من زوجي ؟!

ظهر العجب على وجه ديالا التي لم تفهم كيف ذلك ؟!!

الم تقل ان الكبير زوجها و هي هنا في بيته لا تفهم شيئا حقا !

ظهرت علامات الاستفهام واضحة جلية على محياها وهي تلوي شفتها : كيف ؟!

وضعت نجلا يدها على رأسها تحاول جمع شعرها للخلف وهي ترطب بلسانها شفتيها : حسنا ساختصر عليكِ القضية ، انا هربت من بيته بيت اخر اقصد وهذا انسب مكان للاختباء !

رفعت حاجبيها وهي تقول : آآآآه ذكية اهنئك خطوة ذكية

بينما لمعت التسلية في وجهها والمغامرة ايضا فمالت على تلك قائلة : هل تريدين ان تتسلي بهم هنا ، سأساعدك على ذلك !

يا الهي يبدو انها متهورة فهذا مالا تريده ، فحياتها هذه ليست لعبة ولا تشبهها حتى فثارت في وجه ديالا تهز يدها في نكران : لا لا لا ارجوكِ لا اريد اي مقالب فما بي يكفيني !

رفعت ديالا يدها الى فمها تخمن وهي مضيقة لعينيها : لا تريدين اللعب به واغاضته ، انتي اصلا قد بداتِ اللعبة !

احكي لي عن هذا زوجك لما هربت منه وكيف هربتي منه !

اخ يا الله لا تريد ، لا تريد ان تسخف قصتها في عيون فتاة مراهقة ، ان تظن انها تتسلى بالهرب من زوجها ومن حياته ، تلك المراهقة لا تفهم شيئا عن الحياة وما يحصل فيها فكيف عليها ان تفهمها ما حصل !

في تلك الاثناء دار صراخ عال ، عال جدا صراخ بلغ مسامعهن حتى عبر النافذة المفتوحة امام الستار ، صراخ جعل الاثنتين تقفزا من مكانيهما مفجوعتان و قلبهما يركض بخوف زاد الصراخ وزادت معه حركة في البيت اصوات اقدام عالية وجري ،

هنا تحركت ديالا من مكانها تريد الركض الى الاسفل ومعرفة ما يجري ، والاخرى من خوفها قد تجمدت مكانها فاتحتا فاها مشرعا ، تلتفت عليها ديالا قبل ان تخرج مسرعة ، سأرجع واخبرك

طارت الى الخارج تعبر الدرج بسرعة تنزل لاهثة والصراخ يقترب و الارجل تجري هنا وهناك فوضى عارمة

عندما نزلت اخيرا و اتجهت الى مكان الصرخات و مكان الجري الذي تتجه اليه الخادمات

هناك حيث تقف صبا و تقف امها بوجوه لا يشبهها شيء من الروع

وجوه غارقة في الصدمة و البكاء

كانت كلتاهما تشدا على يديهما بقوة حتى ان صبا قد ارتمت بين يدي امها تبكي بصرخات عميقة من روحها وامها تشد عليها

كان الخدم يتجمعون حولها

حول تلك الخادمة ، المرأة ، التي خدمت هذا المنزل لسنوات كثيرة من حياتها ، مليكة التي كانت تعشق خدمة اسيادها بل وانها سلمت روحها لواحد منهم ، مليكة تلك المرأة الجميلة التي كانت تذوب عشقا في كل من تراه عيناها ، مليكة التي هي بيت اسرار للعديد منهم ، مليكة التي طُعنت في سريرها حتى الموت ، نعم تستلقي هناك جثة هامدة ، مليكة قُتلت مطعونة على فراشها مليكة تغرق في دمائها مليكة بااااااردة كأنها في ثلاجة ، مليكة غطي وجهها بالدم ، تلك هي مليكة التي تراها فاتحتا فاها

ارتعد جسدها حتى بدت تصطك اسنانها من الروع ، انسل الدم من جسدها و صارت شاحبة كالموتى تشبه شحوب مليكة تماما ، تسمع صراخ الخادمات من بعيد و تسمع الجري و الفوضى ولكن رأسها غرق في السواد وما عادت تدري عن شيء حتى رأوها ساقطة على الارض فاتحتا عينا هامدة في مكانها !

هنا دخل يحي لاهثا مفتوح العينين لم يصدق ما نقلته له الخادمة حين كان يرتدي ملابسه يركض الان نصفه العلوي عار شعره فوضوي ويرتدي بنطال من القماش الاسود ، كان مستعدا ليلبس بذلته ولكن لم يكن هناك وقت الا للجري و اللهاث على الدرج كان يجري مثل المجنون لا يصدق البتة ما تقول الخادمة كان يهز رأسه بجنون لكن حين وصل ليجد حتى غاليته ساقطة على الارض مفتوحة العينين وكأنها في غيبوبة منظرها مفجع تجلس بجانبها امه و صبا اللتان لم يعرفا ما يحصل كن يصرخن ظنن انها هي الاخرى قد وافتها المنية اثر الصدمة كانت صبا تضرب وجه ديالا بكفها والدموع تغرق وجهها و جهها مبيض من كثر الجنون الذي حصل

تقدم لهن ساقطا على ركبتيه يرمي بيده الى وجهها يقلبه ينظر الى عينيها المفتوحتين ينظر الى عين امه فرأى الكره و الحقد و الملامة

نظر الى عيني صبا فوجد الخوف فقط الخوف

لا لا تموتي مرة اخرى

لا تتركيني مرة اخرى

لا تعبري هذه الجدران بروحك تارة اخرى

غالية

أراكِ نعم اراكِ يا توأم الروح ووجع الجسد

الدموع التي اخذت تجري على خده لم يكن ليكبحها

دموع تخز روحه و تغزو فؤاده فلم تجد ضالتها الا في تكفينه حيا

لا لا ليس الان

لم نتواجه بعد

لم نعش سويا بعد

لم نكمل اخر قبلة بيننا بعد

رفع رأسها الى صدره كالمجنون يفرد ساقه يلم رأسها الحبيب الى حضنه يهمس بجزع : لا لن اسمح لك ان تتركيني بعد الان افيقي لابد ان تفيقي غالية غالية اخذ يضرب بقوة على وجهها ويهزها هزا عنيفا حتى صرخت فيه امه المكلومة : يحي يحي كف كف كفى بالله عليك كفى الفتاة في صدمة انقلها للمستشفى يحيا افق لنفسك يا يحيا اخذت تهز كتفه بقوة وهو يتعلق بجسد الحبيبة تهتز معه كأنه يغني لها اغنية الوداع كان مكلوما مفجوعا قيل له مليكة وليس غالية ، مليكة وليس هي

نظر الى وجه امه الذي يتوعده بالكثير

في تلك اللحظة التي دخلت فيها زهرة تمشي على مهل ترتدي احسن الثياب و مغتسلة و يتموج شعرها الكثيف بين اردافها دخلت لتراه على تلك الهيئة فابتسمت ابتسامة جانبية هازئة ابتسامة متواطئة وهي تنزل لمستواه تهمس له في اذنه : ارفع رأسك قليلا ، لترى من اين تخرج الدماء ، زادت في حقارتها وسط جزعه : انظر ارفع بصرك قليلا لترى الحقيقة ، تلك هي الميتة تلك هي المطعونة ، قتلتم الاخلاص وقتلتم الطيبة والعفوية قتلتم الوفاء ، كل هذا قتلتموه في مليكة وانت تجلس هنا تحتضن وجه فتاة مراهقة ليست الا خيالا لحبيبة سابقة !

وقفت وهي تطقطق بلسانها : ليس منصفا لمليكة ما تفعله لقد اغضبت الارواح !

حين صرخت فيها صبا : كفااااااا كفى كفى اهذا هو وقت الجدال

فقالت لها وهي تشير لمليكة : وهل هذا هو رد الجزاء ، تعطون ظهوركم لمليكة التي عاشت في كنفكم لسنين لصالح فتاة لم تعرفوها الا منذ اسبوع

هنا القى يحي رأس ديالا من بين يديه وقام لها شدها بعنف من شعرها يجرجرها الى الخارج راميا بها في الممر كالقمامة فتقف شامخة لا يهزها شيئا تلوي جانب فمها باستهزاء وتشير بيدها للداخل : اذهب اذهب ولنرى اي المشاكل اولى بحلها !

وقفت في الممر تنتظر وهو يحدجها بنظرات كالسوط تنزل عليها ووجهه تجعد من حقده عليها : صبرا يا دفلى صبرا !

لوت حدقتيها باستحقار وهي تستند الى الجدار بكل جبروت : انت انسان مجنون مجنون ليس بك ذرة عقل أرى ذلك.. الان ..فقط الآن !

نفخ من انفه نفخة كانت ستطيرها ولكنه صمد و امسك نفسه لألا يعتدي عليها بالضرب فيبطحها ارضا هي الاخرى وتصبح النساء كومة واحدة في هذا الطابق المشؤووم

التفت على عقبيه

تخطى جثة حبيبته ليعبر فوقها الى الجثة الاخرى

جر ساقه الى حيث مليكة

وقف هناك وهو يضع يدا فوق فمه يعتصره بقبضته

مليكة مازالت في ملابس النوم ، وجهها غارق بالدماء و بطنها مخروم بالطعنات ، هنا نزلت منه دمعة قهر .. الحمل .. قتلوا مليكة بحملها !

الدماء كانت لم تبرد بعد و السرير قد امتصها كلها ،

وجه مليكة الجميل قد اختفت ملامحه بين خطوط الدماء التي تلطخه

لا يريد ان يلمسها لا يجرؤ حتى على فعل ذلك

كانت الخادمات قد حضرن ليرفعن ديالا الى غرفة مجاورة

رآها بين ايديهن فذكرته بتلك الليلة حين اتصل به بروين يقول له انها فقدت وعيها !

والتفت مرة اخرى الى عيني امه التي ترفع رأسها له وكأنها تتهمه انه هو من قتل مليكة !

وصبا تنظر اليه لتقول : كارثة يا اخي كارثة وكيف سنفعل فيها

اخيرا سمعوا صوت عصا والده الذي اخذ يلاحق خطواته الى الطابق السفلي حيث تقيم مليكة هنا وحدها يدخل فيرى تلك الفاجعة

يتقدم ناح السرير متجاوزا للجميع

القى نظرة وحيدة ثم صرخ بهم : الجميع الى الخارج الان

خرجت الخادمات ثم خرجت صبا تجر امها التي في غايتها ان تواجه زوجها بكل شيء

اقفل الباب عليهما

شد على يد يحي الغارق في ذاته يرى انه محطم لا يستوعب ما حصل في وسط بيتهم ، من ذا الذي تجرأ ليقتل وسط بيتهم ؟

من الذي فعل ذلك بمليكة ؟

هل بسبب الحمل او لسبب آخر لا يعرفه ؟!

رأسه يدور يكاد ينفجر

وابوه لم يكن يفكر مثله بل يفكر بمنطقية : لن اعرض البيت لدخول و خروج المحققين هل تفهمني

يهز رأسه في تفهم وسط صدمته ودموعه وتماسك والده الذي اردف : مهما يكن سبب قتل مليكة لا يجب ان يعلم احد خارج هذه الاسوار ان احدهم قد قُتل وسط بيتي انا ، انا صالح بن زكريا ، يدخل احدهم او يقيم بيننا يقتل و يخرج لا والله لن ادع احدا يعلم بذلك فيستغلنا كل من هب ودب و تصبح سيرتنا على كل لسان

هز رأسه موافقا اباه نعم فرغم كي شيء ورغم غلاوة مليكة الا ان الأمور لا تجري حسب ما يرغب من يموت بل حسب من يتفرج عليه وهو ميت

كان منخرسا منخرس بالكامل لا يستطيع النطق حين دار والده الى الجهة الاخرى من السرير : الخدم يجب ان ينظفوا المكان ، احرقوا السرير و ندفن مليكة في المزرعة !

كانت العبرات تتكوم عند مقلتيه و العجز يحجر حلقه

قال بصوت مخنوق بالكاد تجاوزه وخرج : ماذا نفعل بالخدم الباقيين من رأوا الجريمة !

غضن والده جبينه ووجهه مسود : نسحب كل الهواتف منهم و لا نسمح لهم بالخروج من القصر من الان وصاعدا لا يُسمح لهم بالتصرف في اي شيء خارج الاسوار ولا حتى زيارة بلدانهم هل تفهم يا يحي !

رفع وجهه في وجه يحي محذرا و عينيه فيها شرارا لاهبا

ضاربا بعصاه بعنف على الارض : اسم بن زكريا لن يهتز بسبب خادمة ، هل فهمت

هز رأسه يوافق رغبة ابيه

نفذ ما قلته لك بسرعة !

يا لسخرية الاقدار

اصبح الجميع اسرى في بيتهم

لا حريات مطلقة بعد اليوم

لا عائلات ولا صلات رحم

لا اولاد

حُرم الجميع من كل شيء ومن كل حق حتى يأذن ولي الأمر بما يخالف !

خرج ابوه بخطوات غاضبة فتح الباب وهنا دخلت امه التي دفعت صبا عنها بعنف و اغلقت الباب خلفها

نظراتها لا تحيد عن وجه ابنها الخائن ، ابنها القاتل

قالت من بين اسنانها : تخصلت منها ، أهذا هو الحل برأيك ، ان تقتل ابنك

التفت لها بعينين بريئتين

صرخت فيه : لا تنظر لي بتلك العينان

لقد كرهتهما بعدما كانا اقرب لقلبي مني

قتلتها وهكذا بهذه الطريقة

رفع رأسه للسماء علها تساعده ضد امه وهو يغمض عينيه في صلاة خفية : امي لو اردت قتلها لقتلتها خارج البيت وليس بين جدرانه

واجهته تخالف قوله : وحتى لتبعد عن نفسك الشبهة قتلتها هنا اليس كذلك حتى تقول لي هذا الكلام و تقنعني انك لم تفعلها

امسك بعضدها بين يديه وجه لوجه : امي اقسم بالله لم اقتلها ولم اعلم الا من الخادمة

امي فكري ارجوكِ لا تضغطي علي فوالله الذي لا اله الا هو اقتربت على الجنون انا سأجن لا تدفعيني ارجوكِ لمنحدر انا في غنى عنه

مليكة قُتلت بسبب حملها

انا لا اعرف لمن قالت مليكة ايضا خبر حملها

ولا اعرف كيف تمكن قاتلها من قتلها

يجب ان اذهب لحجرة المراقبة التي اصبحت عديمة الجدوى ، فبعد كارثة رباب ثم الان مليكة هناك من يحفر لنا ويتربص بنا ويريد توريطنا

وفي كل مرة لا يظهر شيء في الكاميرات ، امي حتى شعيب يشك ان هناك احد من داخل البيت يدبر لنا المكائد هل تفهميني ارجوكِ افهميني

اقترب منها اكثر وهو يخفض رأسه يقنعها : لا يجب ان يعرف ابي بخبر حمل مليكة على الإطلاق

انا سأحقق في امرها فليرحمها الله برحمته

نظر كليهما الى الجثة الهامدة مرة اخرى التي تقشعر منها الابدان

فمنذ يومين فقط كانت مليكة بينهما تروي قصة و سرعان ما مُسحت هذه السطور بيد احدهم !

حين خرج صالح الى حيث الصالة الكبيرة جمع الخدم امامه : الكل يضع هنا هاتفه ، من اليوم وصاعدا ممنوع الخروج من البيت او دخول اي احد غريب عن العائلة ، الكل هنا مشتبه به في قتل مليكة ووالله لن ارحم اي منكم ان عرفته انه هو سبب ما حصل لها

صار الجميع يرتعد رعبا ، فهم لم يتوقعوا ان تدور الدوائر و يصبحوا هم المتهمون بقتل مليكة

لما الان يحصل هذا

مليكة تخدم هنا بكل اخلاص ووفاء

الخدمة القلب الولاء

هم ما وقعت مليكة عليهم للعائلة في نفسها عندما بدأت في خدمتهم

عندما توفيت امها وهي في العشرين من عمرها تركتها تتخبط في الحياة في احد الاحياء الفقيرة هنا في ليبيا ، في شارع يعرف بشارع خريبيش ، شارع قديم منذ عهد المملكة حاراته ضيقة لا تعبره سيارة و هناك شوارع بالكاد تكفي كتفيك ، البيوت متلاصقة وفوق بعضها البعض ضيقة و صغيرة يقطنها المغتربين من الدول المجاورة من مصر و تونس و المغرب ، يعيشون كالاسرة الواحدة ، يتجمعون بين الازقة ساعات يتسامرون و يغنون ، مهنتهم كانت عصر وبيع الفواكه و الحرف اليدوية البسيطة ، ام مليكة غزالة كانت تصنع الحلي البسيطة و تخرج مليكة لبيعها في السوق المسمى بسوق الجريد ، فهناك يفترش البائعون جرائد على الارض و يبيعون بضائعهم بمختلف انواعها و اشكالها

كانت تسير بين الجموع ترتدي البنطال و سترة طويلة وغالبا ما تغطي جسدها بالكامل في جلباب كبائعة متجولة حتى ترجع الى البيت تضع رجليها في ماء دافيء وملح و تدلكهما حتى تستريح .

وكانت تنتظر الليالي لرجوع امها التي تبدأ عملا آخر ، آخر النهار ، تعمل كمشرفة في الافراح ، بحيث سميت بالفناصة .. التي تقوم بالتحديق المميت في الاطفال حتى يجلسوا هادئين و بذلك تكون قد وفرت لقمة العيش و الطعام لها ولابنتها ولله الحمد لم تكن تحتاج لأحد كي يصرف عليها ، تركت الدراسة مبكرا بعد الصف التاسع و صارت تخرج للبيع نهارا و مع امها ليلا تتعلم منها سر المهنة حتى تمتهنها هي الاخرى ، فاللذين يكرهون الاطفال في المناسبات الاجتماعية كثيرون و يحتاجون لمن يوقف هؤلاء الشياطين الصغار عند حدهم !

صادف يوم من الايام حين كانت العائلة تحضر عرسا في احدى القاعات لدى احد الاسر المعروفة في البلاد

جلست العائلة على طاولة واحدة ، في مقدمتهم كانت ماجدة ثم ميادة و بناتهما زهرة و صبا

حين لفتت نظر زهرة تلك الفتاة الجميلة في ملابس لا تناسب العرس البتة ، بنطال اسود وبلوزة بيضاء و حذاء ارضي

رغم بساطة مظهرها الا انها كانت جميلة

كانت هناك تشرف على زاوية للاطفال الذين يحاولون الخروج عن الدائرة التي رُسمت لهم ، كانت تقف فوق رؤوسهم تحدق فيهم بصمت بنظرات مفجعة ، كاد هذا العمل ان يذهب بنظرها لكثرة ما كانت تركز و تحدق بلا رحمة وكانت ايضا تعمل على معاونة توزيع الطعام بين المعازيم وعلى الطاولات وتسأل اذا رغب احدهم في اي شيء

كانت لطيفة في التعامل مع الكبار و حازمة مع كل من تسول له نفسه من الاطفال في الخروج عن طوعها !

كان الجميع يرقص و يصفق و يضحك و الهرج والمزاح في كل طرف وعلى كل طاولة حتى بدأت الفنانة تعزف و تغني بدأت مليكة في الرقص المبدع بين الاطفال و هم يصفقون لها وهي تشجعهم على التصفيق

لفتت نظر الجميع في القاعة برقصها المحترف على الاغاني الليبية الهائجة التي يطير معها الخصر فلا يعود يستقر الا بعد انتهاء الموسيقى

تميل بخصرها وتلوي عنقها و تنزل للارض صار الجميع يحدق فيها وبطريقتها الرائعة الجميلة الملفتة في الرقص ولفتت ايضا بجمالها عدة انظار فهي كانت مكتملة الخلقة فسبحان من سواها ،

ذات وجه دائري ممتليء بخدود منفوخة و ثغر شيق و انف صغير و عينين تميلان للصفار و شعر اسود و قد ممشوق و صدر مملوء و ساق مشدود

وردف عامر غناء !

قبل ان تخرج العائلة من القاعة و عند انتهاء العرس اقتربت زهرة من مليكة بكل شموخ وهي ترفع قامتها و تشد صدرها عاليا حتى يلامس شعرها ردفيها فتلفت لها الانظار برقيها و حليها و جمالها الاخاذ و بياضها الناصع و تورد جيدها فنادرا ما ارادت زهرة الظهور او ان تبرز نفسها امام العامة او اي احد فهي ممن يثقون في جمالهم و شخصيتهم حتى وهي جالسة ولا تحبذ لفت الانتباه !

اتجهت الى مليكة التي كانت قد انهت عملها لهذه الليلة التي استمتعت فيها و تحمل معها حقيبة كبيرة فيها كل ما لذ وطاب لها ولأمها يملأ ثلاجتهما لأسبوع و كذلك المبلغ الكبير الذي استلمته لاشرافها وكذلك بقشيش رقصها الجميل الذي زاد العرس بهجة و حماسا !

تقابلتا وجها لوجه : حين رفعت مليكة راسها في وجه زهرة التي تفوقها طولا تعطها كرتا فيه رقم هاتف العائلة : الاهل يطلبون مقابلتك اذا امكن ، اذا كنتِ ترغبين العمل في احد البيوت وعند احد العائلات الغنية فعليكِ الاتصال بنا .. مدت لها الكرت الذي تناولته مليكة وفي عينيها دهشة تنظر للرقم المدون هناك بينما التفتت عنها زهرة مبتعدة ترتدي واهلها ثياب الخروج !

ولكن مليكة هنا جامدة هامدة ملقاه على سرير بارد ذو اسرة بيضاء محمرة تدخل عليها الخادمات يبدأن في حملها ملفوفة خارج الحجرة الى حيث الحمام الذي اعد و سخن ماءه و طاولة عريضة طويلة مددوا مليكة عليها ، خلعن عنها ثيابها حتى تلك التي التصقت بجروح الطعنات

قد صفي دم مليكة

مات الجسد وعاشت الروح

دخلت عايدة التي كانت تشرف على اعداد الطعام في المطبخ وهي التي مارست في يوم من ايام حياتها تغسيل الموتى حين دخلت للخلوة وحفظت القرآن ارادت ان تفعل اكثر من ذلك ، ان تعلمت كيف تغسل الموتى و ان تتعلم ان تقترب منهم و ان تلمسهم وهم قد خلت منهم الروح ، اصبح الجسد مجرد جسد سيتعفن قريبا ، الجسد مجرد جسد في اي لحظة من لحظات حياتنا سيذهب جفاءا هكذا ترى مليكة التي طالما تفننت في اظهار جسدها و التباهي به واغراء كل الرجال من حولها به

ما بقي منها

الجسد ممدد على طاولة ساكن لا يليق به الا الحوقلة و الصبر و البكاء !

غسلتها كما ينبغي للميت ان يغسل ثم بدات بلفها في كفنها ، كانت تقلبها بصبر لم يكف لسانها عن الحوقلة و البسملة و تلاوة ما تيسر من القرآن في سرها !

كان الجميع حاضرا خارج غرفة الحمام

الجميع يبكي

حتى صالح يقف متجهم حزين مفجوع

لبس الجميع لباس العزاء الاسود و غطوا الروؤس و داروا الشعور

صدح صوت القرآن بصوت ماهر المعيقلي في ارجاء البيت و سكنت كل جنباته ، حتى ميادة التي تركت صغيرتها في رباطها جاءت للبيت تحضر عزاء مليكة فهي لن تنسى وقفتها مع زهرة عند انجابها لمياسين كانت تساعدها في كل شيء و ترتب و تعطر و تقدم و تنظف ولم توفر شيئا لم تفعله خرجت الدموع مجبرة اياها على الخضوع لبعض محبة في قلبها تخص تلك المغدورة

كانت صبا في احضان امها تضع يدها على فمها تحاول بالغصب ان تكتم صرخاتها ، فمليكة عشرة عمر لهم ، كانت كالفراشة في البيت ، تقول نعم نعم نعم لم تخالف امرا يوما لم تسبب لهم المشاكل يوما ، مليكة كانت سعيدة معهم في العمل لصالحهم ، كيف يحصل هذا كيف لا تفهم تكاد تجن فمنظر مليكة غارقة في دمها سيصبح عالقا في ذهنها ما بقي من حياتها كان وجهها محمرا ودموعها تندفع بحرارة وعينيها محتقنتين منفوختين و جسدها يهتز بقوة و صوت بكاءها يسمعه الجميع كل شيء قد انهار في روح صبا !

زهرة التي كانت واقفة هناك تنظر الى كل الوجوه ، تمر عليهم واحد واحد وفي عينيها لوم ، لوم للجميع ، رغم ان صدمتها جاءت عكسية ، عكسية تماما ، لم تخرج من عينيها دمعة ، لم تشعر بشيء في قلبها ، حتى عندما وصلها الخبر صباحا دخلت بهدوء تتحمم ثم تلبست وتعطرت ثم خرجت لهم لتجد يحي غارق بين ذراعي حبيبته !

اما عنه هو فقد فقدَ شيء عز عليه ، نعم هو مرات عديدة لا يطق تصرفاتها ولا حبها لمغازلته ولا شعورها تجاهه ولكنه احب الاخلاص فيها و حفظها لاسراره و تكتمها عن كل ما يأمرها بفعله ، لا تناقش ولا تجادل تفعل ما تؤمر فقط ، الحمل وما ادراك ما الحمل ، لما الان يا مليكة لما اخترتِ ان تموتي مبكرا وبهذا الشكل ، ماذا جرى معكِ في اخر لحظات حياتك ، لما لم تصرخي لم لما تستغيثي كيف استسلمتي هكذا بكل بساطة لطعنات روحك لطعنات ابنك الذي يكبر بداخلك ، لما ومن يا مليكة

من رأت عيناكِ قبل قتلك ؟!!

عندما خرج مسرعا الى غرفة المراقبة هناك حيث عيسى لا زال يراقب عن كثب كل ما يحصل ، فتح الباب بعنف بذلك المنظر العاري الصدر وشعره المشعث ووجهه المسود و عينينه المشقوقتين بالحمرة وفكه المشدود : عيسى اخرج كل شيء عن مليكة الليلة الماضية لنرى من دخل حجرتها

فتح عيسى كل التسجيلات في القبو طوال اليوم لم تخرج مليكة من حجرتها كما امرها الا مرة واحدة خرجت بملابس النوم بيجامة طويلة ، تتبعتها الكاميرات الى حيث دخلت المطبخ فتحت الثلاجة و تناولت منها ما تريده من طعام و شراب ثم اغلقتها و خرجت ثانيتا الى حجرتها و اغلقت الباب !

طوال الليل لم يدخل اليها ابدا ومن الخارج لم يدخل احد غريب للبيت !

كان يتنفس بعنف وصدره يعلو يهبط بلا انتظام كان سريع الهيجان هذه هي اخر لحظات مليكة !

لا أحد

لا أحد !

خرجت مليكة مكفنة مجرورة على الطاولة لا يظهر منها سوى وجهها النظيف عينيها مغلقة في سلام ووجهها مسترخٍ

زاد بكاء صبا التي لم تعد موصولة بالواقع وهي تضع يديها على عينيها تبكي بمرارة و امها تحوقل

اخذ صالح و يحي يجرا الطاولة حتى وصل الجميع الى الخارج هناك حيث واجهت جثتها الشمس وسطع كفنها الابيض وهما يفتحا ظهر السيارة و يدخل يحي حاملا اياها بين ذراعيه اخيرا كما تمنت واي امنية هي تلك ،

وضعها وجلس يتفرج عليها مغموم مهموم مكتئب حزين واخذ الهم من روحه ما اخذ ، والده ركب السيارة بنفسه قادها و خرجوا من البوابة

اما من كانت في الاعلى كثيرا

كانت تطيب رويدا على الجمر كانت نارا تشتعل في صدرها

لا تفهم ما حصل

صراخ وبكاء ثم سكون ثم صراخ وبكاء لا تعرف ما حصل

كانت تنتظر ان تعود اليها ديالا و تخبرها ماذا يجري وان تطفيء غليل الصبر فيها ولكن ديالا هي الاخرى قد اختفت

كانت تدور كالتائهة بين الجدران تريد الخروج والتجسس ولا تستطيع والقلق والتوتر بلغا منها مبلغا ترفع رأسها للسماء وتستغفر و تصلي الا يكون هناك مكروها حصل لأي أحد .. ما عداه ..

حتى رأت من احدى الشرفات من الخلف وهم يخرجون بفراش ابيض ملطخ بشيء احمر بل يغمره كله ويتجهون به الى حيث اصطبلات الخيل ، وهناك رأت النيران تشتعل فيه حتى اكلته كله مع بعض الاغطية

سقط قلبها في بطنها حتى بدأ ينبض نبضا مخيفا من هناك ، تراجعت مصدومة شاحبة جافة الحلق بيضاء الشفتين لا تكاد تصدق لا لا حتى رأت تلك الجثة تُجر على طاولة و يجرها يحي وابوه الى تلك السيارة

سقطت على رجليها لم تعد تحتمل لا تعد تصدق قد غاب كل شيء .. مستحيل ما يحصل مستحيل مستحيل

سجدت وهي تلم بطنها بيديها و الدموع تنهمر كالمطر على وجنتيها

كيف يارب كيف لا افهم لم اعد افهم

لم ترى الوجه ولكن رأت جسدا مكفنا يخرج امام عينيها من هذا البيت !

اما هما فقد وصلا الى المزرعة فتحاها ثم ولجا

بلغا البيت ثم ما بعد البيت الى حيث الحديقة الخلفية و مجموعة الاشجار الغناء حيث حفر العم صبحي لعمق المترين و عرض المتر و جهز كل شيء و حتى الحجر الذي سيوضع فوق وجهها

خرجا و فتحا باب السيارة دخل العم صبحي ليرفعها من جهة كتفيها و بقي يحي عند ساقيها

حملاها ووضعاها هناك امامهم جميعا وقف الثلاثة جانب بعضهم البعض حيث امهم العم صبحي زوج الطباخة عايدة صلوا عليها جميعا صلاة الجنازة ثم رفعوها وحثوا عليها التراب وحتى تلك اللحظة شعر هو بالانهيار فجلس واضعا ركبتيه امام وجهه لافا كلتا يديه حولهما ينظر بوجه لا يفسر الى تلك التي واراها الثرى حالا

نظر له والده : ألن ترجع معي

محدقا في قبرها الذي حفر تحت تلك الشجيرات حيث يظلها الظل الظليل همس من بين انفاسه : سأبقى هنا حتى حين .. اذهب انت و سألحق بك !

تركه والده ركب السيارة و خرج ليرتب امور البيت والخدم

اما هو فقد اقترب منه العم صبحي بوجهه المحفور بالتجاعيد و جسده الضعيف يلبس جلبابا بنيا و يضع طاقية على رأسه و شعره مبيضا و لحيته رمادية قال له وهو يربت على كتفه بصبر : جلستك هذه تذكرني بالسيد شعيب عندما فقد السيدة حنان !

تركه في بقعته الحزينة و ذهب الى غرفته التي يحرس من خلالها المزرعة !



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الخامس و الأربعين

  أشعل سيجارة.. من أخرى أشعلها من جمر عيوني ورمادك ضعه على كفي .. نيرانك ليست تؤذيني كان يستيقظ هذه المرة بلا كوابيس ، بلا اجهاد ، المرة الو...