الجزء الرابع والعشرين



 

 

 


 


راعيل والزين

منذ ان بلغت راعيل سن الثالثة اخذت والدتها غيلا بيدها و صارتا تقطعا

كل يوم ما يزيد عن مئات االامتار للوصول الى كنيس ويشيفا في منطقة

عمران التي كانت تعيش فيها الاسرة الصغيرة حياة الُّزَّهادَُُوُاْلعُبَّادَ ال

لشيء سوى لفرض رسوم كبيرة و ضرائب معيشية على تلك الأسر

المعدودة من يهود اليمن ، عائلة زوهر الذي كان يعمل صائغا في متجر

صغير على اطراف المدينة يتم الوصول اليه بشق النفس ، يصرف عليه

ومنه الندر اليسير على الاسرة التي لعسر العيش قرروا ان ينجبو صبي

واحد ، وكانت ان حملت غيلا فأنجبت بنتا كأنها البدر التمام تأخذ بالالباب

، رعياها و كبراها حتى بلغت الثالثة فقررا ان يرسالها الى الكنيس الذي

يبعد عنهما كثيرا وفي حين كان والدها مشغولا  بتحصيل العيشة ، اخذت

والدتها على عاتقها السير بابنتها طوال االاسبوع الى ويشيفا ، قد كان في

راعيل الذكاء الكثير و الفطنة الجلية عن اقرانها ، فحفظت المزمور عن

ظهر الغيب في سنة واحدة ، ثم عهد اليها بالتلاوة في المعبد ايام السبت ،

فكانت تغني بصوت كالبلبل تسابيح تصدح الى السماء في خورس

موسيقي مكون من بضع فتيات و بضع شبان يعدون على االاصابع ، ذاع

صيت راعيل لحسن صوتها و شدة جمال تكوينها الذي قيل فيه ان نساء

المدن لم ترى احسن منها خلقة حتى ان من يراها يصيبه الروع ،

صارت راعيل تغدو و تروح كل يوم قاطعة طريق صحراوي صعب

السلوك اشبه بالجبال كثير االاخطار فلا تصل الكنيس الا وقد بلغ التعب

منها مبلغا كبيرا فكانت تمشي مخترقة السيول و متحملة لحرارة الشمس

و صرير الريح و الصواعق و االامطار.

عمد حاخام الكنيس ياشيهو الى تعليمها اصول المزامير و الى تحفيظها

كتب الحاخام بن ميمون كي تشب على العلم و حب الديانة و قبل ذالك حب

الرب فقد كان يكرر على مسامعها : راعيل ايتها الطيبة لابد وا ان تفخري

أنك فرد من الشعب الذي اختاره الله على سائر الشعوب موعودون

باالابدية حتى ان الرب قد خصنا بأكثر االانبياء حكمة و صيتا و قوة كنبينا

داوود الذي ترنم بالمزامير حتى كانت االاحجار تطرب لسماع صوته ، او ملكنا سليمان الذي بنى لنا امبراطورية تمتد من بعلبك حتى مصر

و اليمن و قد سخر الرب له االارض كما لم يسخرها لبشر من قبله و لا

من بعده .

قد كانت تنصت اليه بمحبة و قد خطر لها بعدما درست تاريخ االانبياء و

سالالتهم فقالت له تجادله : و لكن الم يتبع نبينا سليمان الهة الصيدونيين

في اخر زمانه لحبه الشديد لسريته عشتورث ، فلو كان نبيا يحب الرب و

يطيعه ما مال قلبه الى اله غيره كما ورد في سفر الملوك االاول لذالك قد

غضب عليه الرب ووعده بازالة مملكته ؟!

كان الحاخام يستمع في صمت و ينظر اليها في حيرة حتى اجاب عليها :

لسنا معصومون من الخطأ يا راعيل لكل نبي عثرة ، انظري الى نبينا

موسى قد قتل و تاب عليه الرب و انظري الى نبينا يوسف حين ادعت

عليه امرأة فوطيفار باغتصابها ، نحن نخطيء ياراعيل و الرب يغفر

خطايا من يحب.

ردت عليه ساهمة : قد قرأت شيئا مشابها في قرآنهم .

نظر لها الحاخام نظرة الغاضب : ليس صعبا ان يجمع احدهم قصص عن

انبيائنا و يضعها في كتاب واحد ، فما االانبياء االا من سلالة بني إسرائيل

و غيرهم لا ايمان لنا بهم ، عليك ان تفهمي ذالك يا راعيل ، ديننا هو دين

االام و المعاناة و شعبنا مخلـد كما وعدنا الرب ،نظر لها بعطف ليضيف

عن علم : اني ارى في عينيك اورشليم !

تجلت الرؤية عند راعيل التي ادركت الفرق بينها و بين الفرقة االاخرى

من المسلمين فهي لم تعاشر احد منهم قط ليس خوفا من تأثيرهم عليها

الانها في قرارة نفسها عالمة أن أحدهم لا يستطيع ان يزعزع قناعاتها في

دينها كما يمكن زعزعة قناعات المسلمين بسهولة فهم يعرفون الرب

بالوراثة و ليس عن علم و اطلاع مثلها والا لما غصبوها على تعلم دينهم

عنوة في أوائل حياتها !

قد كانت راعيل ترى الحال السيء الذي وصلت اليه عائلتها فوالدها قد

اغلق متجره لعزوف الزبائن المسلمين عن الشراء منه و تحريضهم عليه

و على بنى جلدته ممن تبقى منهم في ارض اليمن ، فبلغ الفقر عندهم

مبلغه حتى صاروا اياما و ليال ينامون يربطون على بطونهم و صار

والدها يبيع من اثاث البيت قطعة بعد اخرى حتى كاد يفرغ سوى من بضع

مواعين و فرش ارضية ، فطلبت راعيل من حاخام الكنيس ان تعمل في

الكنيس كأن تنظفه و تعتني به او تعلم الصغار اصول التلاوة و تعلم اللغة

الارامية التي كانت تجيدها ولا تتحدث مع اهلها الا بها لعظمة تلك اللغة

االم في نفسها لانها اللغة ذاتها التي تكلم بها انبياء اليهود االاولون ،

وهي قد كانت تعظمهم تعظيما ، حتى لما بلغت العاشرة اصبحت امرأة

كاملة تجيد حرفة الصوغة التي علمها اياها والدها فأخذت تصنع لنفسها

حليا و تضعها على جيدها تتزين بها و كانت تجيد ذبح الحيوان و تجيد

الكوشر)١( ، بيد انها لم تلتحق بالمدرسة لشدة ما كانت يضغط عليها بها

في أوائل سنينها من تعلم القرآن ، فقعدت في البيت تعين والدتها و تخدم

اهلها و صارت تعلم الصغار اللغة العبرية و االارامية و المزمور في

الكنيس يومي االاحد و االاربعاء .

عندما رأت غيلا ما وصلت اليه ابنتها من جمال تخطى العقول و يذهب

بالاابصار اخذت تغطيها و فرضت عليها زيا اشبه بزي المسلمات في

طوله و سواده و الخمار الذي اسدلته على وجهها ، فقد خافت عليها و

ايما خوف و كانت تدعو الرب ان يحفظها فهو اباهم و هو حافظهم و

حافظ كل الشعوب .

عندما بلغت راعيل السادسة عشر ، وصل الى مسامع والديها ان جماعة

تعرف

بالحوثيين قد اغارت على بيتين لليهود و اسروا الفتيات و قتلوا شابا

منهم ،فبلغ عندهم الخوف و الهم مبلغا ، فخطر على بال زوهر ان يحفر

في مطبخهم حفرة كي ينزلوا فيها ان سمعوا بغارة للحوثيين عليهم ،

فشرع في عمله و صار يحفر و يحفر ليال نهارا حتى بلغ عمق الحفرة

مترا و نصف فاالرض كانت صخرية و لم تكن سهلة في الحفر و التنقيب  ، في ليلة

من الليال رأت راعيل حلما أنها جالسة على قبة صفراء فقامت من نومها

و علمت انها مفارقة اهلها لا محالة ، فجلست في حالة من البكاء و

الصلاة و الدعاء و السجود للرب الكبير ، و قد سمعت الجماعة حينها

بأمر راعيل وما هي عليه من الحسن الذي كان لا يطلع عليه االا والداها

منذ عمر العاشرة حسبما تناقلته االالسن ، فسرى الطمع في نفوسهم

مسرى الدم في العروق و سعوا جاهدين للحصول عليها فلربما باعوها

في سوق النخاسة بثمن يعينهم على الحرب و الجهاد ، فهجموا هجمة

على الدار و التي ساعتها كان زوهر قد خبأ ابنته الحبيبة و مهجة فؤاده

في الحفرة ، ففتش الجنود وقلبوا الدار و ما لقوها فخرجوا منقلبين على

اعقابهم، وما ان خرجت راعيل من الحفرة بعد سويعات االا و هجم الجنود

هجمة مباغتة صار فيها ضرب و زعيق و صراخ ام ثكلت و أخذت منها

فلذة كبدها فصارت تحث التراب فوق رأسها و تهجو الحوثيين و ترثي

قلبها الذي فقدت حتى غابت عن دنياها .

عهد بها لرجل نخاس من قبيلة الزرانيق و الذي كان قد دفع مبلغا يفوق

الخيال في سبيلها و قرر الدفع بها و التجارة عبر البلدان و االامصار

فركب بها سفينة عبر بها و اعوانه البحر االحمر الى الشمال الغربي

قاصدا السواحل السودانية و في عرض البحر حين كانت السفينة تموج

بهم قد ارسل الزرنيق اليها برجل كي يتحرى امرها ، فدخل الرجل عليها

بيده طبق من طعام و حين سولت نفسه امر مباغتتها و الكشف عن

وجهها الذي سمع عنه الكثير قرر ان يرفع خمارها لينظر اليها ، و هي

التي كانت مقيدة اليدين و الساقين بالسلاسل و كانت دموعها تجري على

خديها مجرى النهر في الوادي ، حين كشف المعاون عن وجهها صرخ

صرخة عظيمة خر منها مغشي عليه ، سمع من كان على السفينة تلك

الشهقة فهرعوا لمصدرها ووجدوا الرجل بين الحياة و الموت فنظروا

نظرة الى وجه راعيل حتى تساقطوا امامها كالذباب صرعى فوق بعضهم

البعض ، هال الزرنيق ما رأى من اعوانه فطلب منها من وراء ستار ان

تغطي على وجهها حتى يسحب اعوانه خارجا ففعلت ما امر، بهز رأسها

هزتين نزل على اثرها الخمار منسدلا مداريا عن ملامحها .

قد اغتم الزرنيق غما كبيرا حتى لما وصل الى سواحل السودان الجنوبية

قام بدفع راعيل الى قوادة عجوز لئيم دفعت فيها مبلغا زهيدا دراهم

معدودة ، ثم جرتها معها الى بيتها و حاولت معها باللين ان تكشف عن

وجهها لتعاينه ففعلت راعيل على مضض وهي عالمة ان امرها قد كان

بين التجار منتهيا فهي قد اضحت سلعة لمن لا يشتري فيتفرج ولن ينالها

فيهم االا المتردية و النطيحة.

رفعت الخمار و نظرت لها العجوز التي كان وجهها شديد التجعد و خديها

متهدلان و الشعر يغطي ذقنها و شاربيها و حاجبيها غليظين رماديين و

عينيها ضيقتين بحدقة سوداء غامقة و اسنانها صفراء قد سقط نصفها و

بقي واحدة ذهبية كناب على الجانب االايسر السفلي ، كانت منحنية الظهر

و لكنها لا زالت شديدة قوية ، في مشيتها اصرار و في التفاتتها لؤم و

دهاء فصارت تحدق بها بنظرة الخبيرة في شؤون النساء و احوالهن و

علمت لما يخر الرجال عندما يرونها صرعى كما اخبرها الزرنيق ولانها

امرأة كانت قد باركت الخالق فيما خلق ولم تأخذها الرجفة و لا الصيحة ،

اجلستها في دارها التي كانت ضيقة صغيرة بحجرة واحدة و قطعة قسمت

بين حمام و مطبخ بملاءة سوداء بها ورود خضراء قضت اياما كانت

تبحث فيها عن الرجل الذي قد يدفع فيها مبلغا يغنيها و يجعلها تحيا في

نعيم و لذة العيش ، فكان ان وجدت رجلا مزواجا لا تملأ عينه النساء و

قد حذرته مما قد يرى منها و لكنه قد اطمأنها أنه لا امرأة في هذا الكون

كانت قد اخذت بلبه .

دفع فيها مبلغا لم تكن القوادة تحلم به في حياتها خبأته في جيدها بين

ثدييها المجعدين و امسكت راعيل من يدها و دفعت بها الى الرجل االاسود

االشيب المعتدل الطول و الجسد الذي جر راعيل معه الى مسكن قريب كي

يقضي منها وطره و لم يعلم انها كانت بكر عذراء ، كان البيت صغيرا

مليحا نظيفا تفوح منه رائحة البخور و العطر الرجالي السوداني و قد

كانت سلبت روحها من كل مباهج الدنيا حتى لم تعد تنطق بعدها !

ادخلها الرجل الى مخدعه و قد كان متأنيا في عمله فاستحم و تعطر و

تجمل ودعاها بيدها الى فراشه فاجلسها عليه و ما ان رفع خمارها حتى

شهق شهقة ذهبت بها روحه و خرجت من فورها من جسده .

اخذت تنظر اليه بفجع و جسدها يرتجف و قد قامت تتخطاه حتى خرجت

من البيت تعدو باتجاه منزل القوادة !

بعد ايام نزل على القوادة رجل سياسي ذو نسب عريق يطلب منها فتاة

مليحة يقضي معها ليلة ، و حينما خافت العجوز هذه المرة بعدما مات

الرجل االاخر قبل ايام بسببها ، فقد عمدت الى تزيين وجه راعيل زينة

قبيحة كي لا يخر الرجل صريعا .

البستها الثوب الجديد و عطرتها و بخرتها و اخذت بيدها الى بيت

السياسي الذي كان هائج مائجا ينتظر على نار الصبر فأخذ منها الفتاة من

يدها و اغلق الباب من فوره في وجهها و صار يجرجر الفتاة خلفه في

بيته الشاهق العلو الرفيع المستوى فدفع بها الى غرفته و خلع ملابسه

على عجل حتى صار عريانا و دفع بها الى الفراش حتى تمدد جسده

عليها فاعتلاها و صار يكشف عن ساقيها فوجدها كالزبدة و ارتفع ليبلغ

فخذيها فوجدهما ملفوفتين كابريق فضة فتعجب من امرها فاراد ان

يكشف عن وجهها فلما رفع الخمار فشهق شهقة سقط منها على صدرها

صريعا !

كانت الزينة قد مسحت بفعل الخمار و الدموع التي مسحتها بيديها عليه

فكشف عن وجهها دونها ، اخذت تندب و تبكي و ابعدت جسد الرجل عنها

و خرجت تركض الى ان وصلت منزل القوادة التي كاد رأسها ان ينفجر

من هول الفاجعة.

علم جمع غفير مما كان من امر القوادة و جاريتها فاجتمعوا عند بيتها

غضبانين مطالبين اما بحرق الساحرة راعيل او ترحيلها عن المدينة !

خرجت العجوز في ليل من المدينة خائفة تترقب ، حتى وصلت الى حي

شعبي كان الناس فيه جماعات جماعات يصعدون القوافل المسافرة عبر

الصحراء الى الشمال الى شواطيء البحر االابيض المتوسط فدفعت براعيل

كي تصعد مع الصاعدين و يختفي ظلها بينهم و هي تودعها دامعة

العينين .

انطلقت بهم القافلة عابرة بعد ساعات شاقة من الهروب عبر ممرات امنة

حدود السودان تاركة الوجوه السوداء تنظر بسراب الى ما تركت خلفها

ربما احلام و اماني و اشياء كثيرة حبيبة للقلب و ينظرون الى االامام الى

بر السلام و عبور البحر و نيل العيش في جنة الله على االارض غير

عابئين بالموت غرقا فاما الحياة الهنية او الرجوع الى تلك البقعة االاثيرية

التي تستلم االاجساد! .

عم الهدوء القافلة التي كانت تتوقف كل ساعتين في عرض الصحراء

ليقضي الناس حاجتهم و كي يأكلوا شيئا يشبع بطونهم ، وهي كانت في

زاويتها تشد على جلبابها ساعة من حر الشمس و ساعة من برد الليل و

في ساعة بزغ فيها القمر و نظرت اليه فغنت حنجرتها بتراتيل ارامية

سمعها هوام الصحراء و التفت اليها المسافرون يسمعون في خشوع

كلمات غريبة لا تفسر تردد صداها و غشيت من فتنتها مقل الدامعين و

هاجت قلوب المودعين ايات من مزامير داوود

حتى متى اْلخطاة يا رُّب، حتى متى اْلخطاة يْشمتون؟

يبقُّون، يتكلمون بوقاحة. كُّل فاعلي اإلاثم يْفتخرون 4

يْسحقون شْعبك يا رُّب، ويذلُّون ميراثك. 5

يْقتلون الْارملة واْلغريب، ويميتون اْليتيم. 6

ويقولون: »الرُّب لا يْبصر، وإله يْعقوب لا يلحظ«. 7

اْفهموا أيُّها اْلبلداء في الشْعب، ويا جهالء متى 8 ( سفر المزامير 93 (

تْعقلون؟

سارت القافلة مسيرة خمسة ايام حتى وصلت الى معسكرات التهريب في

مدينة تدور فيها احداث الرواية تدعى يوسبريدس ) ٢( !

اخذت مكانها و بدأ الحراس يعدون النازلون و يصنفونهم حسب اجناسهم

، ابيض ، اسود ، رجل ، امرأة ، طفل ، بنت ، و كل يأخذ غطاؤه و غذائه

و يرشد الى مضجعه و لكثرة النازلين او المتواجدين في المعكسر لم

يلتفت أحد لها فبقيت على فراشها ترقد ساعة تشهدها الكوابيس و تقوم

ساعة لتنظر الى مختلف االاجناس من حولها و ساعات تسجد للرب تدعوه

و تعبده و تتلوا ايات الرحمة و الرأفة بها و تخبره أنها صابرة على

امرها حتى يبين مقصده من ابتالءها ابتلاء االانبياء .

زوهر بعدما دفنت زوجته غيلا في مقبرة المعبد اليهودي والتي ماتت و

قلبها مفطور على راعيل ، ضاقت عليه الدنيا بما وسعت ، صار حزين

كئيبا و صار يتعرض للتحرش من قبل الحوثيين الذين سيطروا على

المنطقة ، فاتفق مع اسرة يهودية اخرى على التسلل ليلا عبر الجبال

للوصول الى قطر مجاور قد وصلهم نبأ انهم يساعدون اليهود للوصول

الى ارض فلسطين وهكذا فعل فقد خرج بملابسه بعد ان لف عمامته

اليمنية الصفراء حول رأسه و ضبط ازلافه و وضع الخناجر في خاصرته

خرج يحمل في يده قلادة قد صنعتها راعيل لما اسرت له ذات يوم انها

تتمنى ان تزور بيت المقدس و ترى هيكل النبي سليمان فاحتظنها بين

ضلوعه يبكي و يقبلها وقد كانت نجمة داوود النبي .

لم يحقق زوهر امنية غيلا حين اسرت له ذات ليلة من سمر حالمة : حين

اموت يا زوهر اتمنى من الرب ان ادفن في جبل الزيتون * في تلك

المقبرة العلية التي طالما حلمت و الدتي بعد ان تحج الى القدس و تقف

لتصلي عند حائط المبكى ان تقف عليها و تجاور روحها الرب دون

سواتر ، ان اذهب هناك ان احج ان اقضي عيدنا هناك ،

أن ترى راعيل ارضنا الموعودة . و قد كانت امنيات غيلا مجرد احلام لم

تعبر يوما حدود الواقع!

عبر بلدا و تاليها اخرى ثم اخرى حتى اخذ السفر منه على قدميه بضع

شهور حتى وصل لذالك القطر فأرسلوه من فوره الى فلسطين و هناك

منحته حكومته بيتا و عملا في مدينة خور سالم يليقا به فليهود اليمن

مكانة علية بين كل اليهود لما لهم من تاريخ طويل مشرف و بنسبهم

للملك سليمان انهم اول يهود قد سكنوا ارض اليمن .

رفع زوهر الى الحكومة عريضة قد خط فيها كل ما حصل لابنته راعيل

على ايد المتشددين فنظرت الحكومة لعريضته بعين االاعتبار ووعدته

بالتقصي عنها و محاولة اعادتها الى احضانه !

راعيل التي عاشت حياة اسوء مما كانت تحياها في كنف والديها في

معسكر التهريب و اعمال النخاسة و الدعارة، فقد كان مكتظا بالسود و

كل يوم تحضر دفعة جديدة حتى تدافع الخلق في المعسكر و صاروا

ينامون فوق بعضهم البعض ، اما حالة المعسكر فقد كان شيء اقرب

للمزبلة منها الى مكان يليق بالبشر ، فالطعام كان ملوث سيء الطعم ، و

الزواحف و الحشرات الطائرة التي كانت بعدد من كانوا يسكنون المعسكر

بضعفين فالصراصير اصبحت صديقة ، و النمل رفيقا و الذباب موسيقى ،

و قد كانوا جميعا يستحمون في حمامات مفتوحة على بعضها البعض عدا

عن ان االاطفال كانوا يتغوطون و يتبولون على االارضيات ، قد كانت

راعيل لايام معدودات تشرب فقط فيها الماء و قد كانت تنام تحت احد

السرائر فتغفى عينها لدقائق ثم تقوم ثانية تراقب ، و قد انشغلت ايام

السبت بتلاوة التوراة و السجود و الدعاء ، وكانت من النادر ان تخرج

كي تقضي حاجتها حتى خطر عليها ان تلف حول المعسكر فربما تجد لها

بقعة تجعلها لقضاء الحاجة و هكذا فعلت فقد وجدت مجموعة من

الشجيرات المتشابكة فكانت تزحف حتى تخرج من بينها و تتوسطها و

تتبول فيها وكانت قد سرقت من حقيبة احد النساء قطن للاطفال

لتستخدمه وقت حيضها مخالفة في ذلك تعاليم دينها الذي يحضها على

االمانة و صدق النوايا ، وصل حالها الى اليأس و الحزن و االاكتئاب حتى

باتت تفكر في قتل نفسها و الخلاص .

لاحظت بعد ايام خروج و دخول اطباء بكمامات يغطون اطفاال او نساءا و

يلفونهم بأكفان بيضاء ، قد كانوا موتا !

نعم فقد انتشرالوباء الكبدي و حمى الصفراء و الملاريا في المعسكر و

مات الكثير من الخلق و صاروا يدفنون في مقابر جماعية في مزرعة

قرب المعسكر ، و قد كان المسؤولون قد باشروا باعطاء تطعيمات و

تسريح من يقدرون على تهريبهم دون لفت انتباه اي سلطة في البلاد .

اما الزين

بعدما رأى ما الت اليه حال زوجه فقد فقد وجهها بهاؤه و انطفأت لمعة

عينيها و صارت خواء عميق ميت و ما صار عليه امر جسدها الغض

الرشيق و الذي كان يتمرغ بين ثناياه ليال و اياما ، فانجلت غشاوة

البصر و صار يستقبح مالم يستقبح من قبل ، رأى أن الجسد قالب يفنى و

يذبل و يهتريء ، و رأى أن الروح انما هي ما يعشق المرء ، فمن غير

الروح لا يطيق أن ينام الحبيب بجوار حبيبه ليلة واحدة وهو جثة هامدة .

علم ان الشهوة تنتهي بانتهاء الفعل ، ان الحب الغارق بالشهوة ما هو االا

ممارسة بهيمية لم تلتفت للعفاف و الطهر و الكمال .

علم أنه قد سيطر على شهواته و تشوقاته ، ان الوجه للتراب و الروح

للبرزخ و الفتنة الى زوال .

قد كان يجلس يحتضن كفيها يبكي ويرثي نفسه و يرثيها

أتاركتي للموت أنت فميت * * * وعندك لي، لو تعلمين، شفاؤها

لقد أورثْت قلبـي وكان مصحـحـا * * * بثينـة صدغا يـوم طار رداؤهـا

إذ خطرْت من ذكر بـثـنـة خطرة * * * عصتني شؤون العين فانهل ماؤها

فإن لم أزرها عادني الشوق والهوى * * * وعاود قلـبـي من بثينـة داؤها

وكيف بنفـس أنت هيجت سقمهـا * * * ويمنع منها يـا بثيـن شفـاؤهـا

وفي تخبطه لجأ الى حمام النساء فرأى أجملهن على وجه الخليقة فكن

بيضاوات و سمراوات و صفراوات على اختلاف خلقتهن و السنتهن ،

هناك من يجلسن على الدكك عاريات الجسد ، ومن هن يستحممن في

الحوض الغارق بورق الورد و البنفسج و العطور و اخريات يخضبن

سواعدهن بالحناء و اخر يجدلن شعورهن بدلال و اخريات يعزفن و

، هذه المرة قد نظر لهن نظرة الرجل الحزين

الذي انشغل قلبه بمرض حبيبته و يرى أنها ملاقية ربها في ساعات

معدودات لا محالة ، فجلس على الدكة و تقدمن نحوه خلعن عنه ملابسه

و صببن الماء باالابريق على رأسه و كتفيه و دلكن جسده و حممنه و

دفأنه حتى غلبه النعاس فتمدد على دكته اغمض عينيه فغطينه و تركنه

يغفو.

لعدة ليال دخل فيها الزين في غيبوبة ، فقد باغتت الحمى جسده و صار

ساخنا كالحميم كلما دخل عليه طبيب خرج محزونا منتكسا حتى ظن اهله

 أنه مفارق ، قد ماتت زوجه  و غسلت و كفنت و دفنت و صلى

عليها جمع قليل من الرجال في المقبرة .

استهم يحي على اخاه هما شديدا و اطبقت االارض و السماء على صدره

من شدة ما يلاقي ، و لم تغلبه الحيلة في جلب كل ذي طب و لم ينفعه من

طبه شيئا ، حتى بلغ مسامعه سيرة عجوز في المعسكر تتلو تعويذات

على من يصيبه المرض فيشفى .

تلك العجوز كانت راعيل من رأت طفلا بين ذراعي امه تموج به الدنيا و

الموت يتربص به ، فأخذته من ذراعيها و حملته بين كفيها و صارت تتلو

عليه في خشوع و مذلة الله الواحد االاحد الفرد الصمد تدعوه أن ينقذ

عياله و يبعد المرض و السقم عنهم ، كانت تتذلل الى مالكها و معبودها

تذلل المحتاجين المساكين و كانت تبكي بكاء من فارق حبيب

يا رُّب إلهي، اْستغثْت بك فشفْيتني.

إلْيك يا رُّب أْصرخ، وإلى السيد أتضرع

وأنا قْلت في طمأْنينتي: »ال أتزْعزع إلى األبد«

لكْي تترنم لك روحي وال تْسكت. يا رُّب إلهي، إلى األبد أْحمدك. ) سفر

المزامير 30 (

فصارت كذالك من العبادة لعدة ايام حتى شفي الصبي و ذهب عنه المرض

ففرح اهل الصبي و من ثم ذاع صيتها أنها العجوز التي تتلو تعويذات

تشفي المرض و تذهب السقم ، و لأن احدا لم يطلع على خلقتها و لا على

طرف منها فقد ظن الجمع أنها امرأة محنكة ذات خبرة و معرفة بأحوال

البشر .

و هكذا كان أن ناداها و طلب منها ان تعاين اخاه فهزت رأسها دليل

رضاها فاصطحبها معه الى القصر و قادها مباشرة الى حجرة اخاه الغائب

عن الدنيا و قد غاب حسه فيها .

سبحانه من تعب الفؤاد لمراده و لحسن لقاءه ، سبحان من نحن له حنين

المشتاق و ننتظر لقاءه لقاء المبتهج لموعد انتظرناه ، نور على نور ، يا

سيد الملكوت ، يا والي المخلوق ، يا حبيب من احبه ، و طالب بوصال

ربه ، ووقف على كل حد حده .

قد رقص القلب لك و استفاض من نورك فاحسن اللقا بك و قربنا منك و

ال تدنينا عنك .

الله الله ، يا ودود ، يارب يعقوب و يوسف و داوود

عْند دعائي اْستجْب لي يا إله بري. في الضيق رحْبت لي. تراءْف علي

واْسمْع صلاتي.

فاْعلموا أن الرب قْد ميز تقيه. الرُّب يْسمع عْندما أْدعوه.) سفر المزامير

)4

قد فتح عينيه و اجفانه تنطبق من جديد لشدة التعب و النعاس ، و لكنه

لازال يسمع لتلك الكلمات العجيبة برنة غناء تهيج المهج و تنزل على

الصدر فتزيل همه و غمه حتى اغلق عيناه من جديد .

قد شفي الزين و صار يستلقي في السرير وقد ظهر المرض عليه جليا

فقد هزل جسده و اصفر وجهه و ضمرت عضلاته و كان قد علم بوفاة

زوجه فحزن عليها حزنا شديدا ، اعتزل الناس لايام عديدة يعتكف في

مضجعه وكان قد رفض ملذات الحياة من اكل و شرب و لهو .

و اذ اراد يحي ان يقيم حفلا لرجوع اخاه للحياة فقد عمد الى فتح القصر

على مصراعيه ،فمدت البسط الحمراء و فرشت موائد الطعام و أشعلت

القناديل و تجمع الرجال و النساء الراقصات .في حين كان الزين غارقا

في الظلام و ما رفه عنه ان اخاه اخبره ان جماعة الصوفية قادمون كان

قد استعد لمجيئهم فارتدى قفطانه االابيض ملون االاطراف ووضع طاقيته

الحمراء و لف الحزام االاحمر العريض على خاصرته و قد كان عقله

مشغولا بتلك الرسالة ، فعندما علم انه استفاق بمهية تلك العجوز فقد

ارسل لها كتابا مع احدى نساؤه و بعد السلام و الشكر الجزيل و الثناء

الكثير كتب لها تمني علي ففي اعناقنا لك امتنانا عظيما و نود ان نجزيك

عليه خير الجزاء !

فردت عليه الكتاب قائلة: تمنيت عليك يا سيدي أن ترسلني لبني إسرائيل

.

تعجب من امرها و لم يناقشه فدفع به الى اخاه كي ينهيه و يرسلها الى

حيث ارادت امتنانا و عرفانا لما قدمته له من معروف ما نسيه ابدا ما

حي !

كان الظلام قد حل و القصر قد ملء بالداخلين و الخارجين المحملين

بالهدايا القيمة ما صغر منها و ما عظم وبعد ما لذ و طاب و رفع االاطباق

و ملء الكؤوس ،

كانت جماعة الراقصين جاهزة بالجوقة الصوتية التي يردد اشعارها

مجموعة من الرجال ذوي االاصوات الغليظة الرخيمة فتعلو تارة و

تنخفض تارة اخرى حتى بدى الجمع يتمايل على غناهم و اطربت

اسماعهم و سكنت نفوسهم و تلذذت. و قد بدى الرجال الراقصون

بالتوزع في دوائر و الدوران الخفيف الذي اخذت وتيرته تتسارع و

االاغاني تتعالى حتى تداخل البعض و شكل فنا تذهل منه النفوس ، تطاير

القفاطين و رفع الرؤوس و انسجام الحس ، فاخذوا بتلاوة اشعار لرابعة

العدوية التي وقعت في حب الذات االلاهية و اصابها الشوق لمالقاة العزيز

القهار مسخر االرض و الجبال و االنهار ، من سجد له الليل و النهار و

اليه يتقرب المحبون في الخلوات و من حبها شهقت شهقة قد خرجت بها

الروح و سلمتها لمن احبت و ارتضته ربا :

أحبك حبين حب الوداد و حبا لانك اهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى فحب شغلت به عن سواك

واما الذي انت اهل له فكشفك للحب حتى اراك

فما الحمد في ذاك و لا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا و ذاكا

ارتقى في مدارج الوجد و الشوق و تأوه حتى تمكنت منه لذة النظر ففتح

عينيه في الفضاء فتقع في عيني القمر فأصاب الهوى قلبه و هوى و خر

على االارض مغشيا عليه من الهوى !

القوه في فراشه كالميت شاخصة ابصاره حتى ظن الناس انه مس من

الجان ، فاستدعي الشيوخ و الطب و كل ذي قدرة و ما حرك فيه شعرة

فالزين كان كما قال ابن زهر في نفسه ،

بات من يهواه من فرط الجوى خفق االحشاء موهون القوى !

قد كان الزين راقدا اليام لا يعلم حاله سارحا تارة و يجهش بالبكاء تارة

اخرى و كان يمسك على قلبه وكأن يد  تعتصره عصرا، فساء القوم ما

صار اليه فطلبوا العون من راعيل التي تقطن في حجرة منعزلة في الجزء

الجنوبي من القصر و التي كانت حجرة مرفهة كمنزل صغير بملحقاته و

حماماته و مطابخه منح لها حتى يحين وقت رحيلها والذي تحدد بعد عدة

ايام حسبما اتفق يحي مع احد المهربين فراعيل تعوزها االاوراق ولا

وسيلة لاخراجها من البلد الا تهريبها لبلد مجاور له قنصل إسرائيلي

سيساعدها .

في تلك الليلة حين ابتدأ الحفل كانت راعيل في غرفتها تجلس على

سريرها تتلو بعض الصلوات قبل أن تنام وهي تشكر الرب العلي على ما

آل اليه امرها و خروجها من الضيق الى الفرج .

و رغم انها كانت بعيدة عن اي حركة داخل القصر فقد كانت حجرتها تطل

مباشرة على الحدائق الخلفية لها و التي من وراء حجاب رأت العاملون

كأنهم في خلية نحل يفرشون الموائد و يرشون العطور و يمدون البسط و

يشعلون االنوار حتى باتت ساحة القصر بهية كعروس تتزين لزوجها او

كأنها من حكايات الف ليلة و ليلة خصوصا بتلك الخيمة البيضاء التي كان

فرشها و دككها منقوشة من الذهب و مقاعدها مغطاة بالحرير ، و

االزهار و الورود وضعت في فازات عمالقة في زوايا الخيمة ، بعد برهة

لفت نظرها جمع غفير اقبل و رجل يتوسطهم كأنه نجم وسط السماء ،

عظيم الهيئة جميل المحيا عرفته على الفور لما قضت اياما و ليال جواره

تردد على مسامعه ما تيسر من التوراة و ما تحفظ من ادعية يلبي بها

الرب لها تضرعها خفية .

كانت تراقب تحركاته و قد زاد انبهارها حين بدأ صوت ذكوري جميل

بتلاوة اشعار لم تسمع مثلها في حياتها ابدا ، اصوات تمجد ربها و ربهم

و الرجال يدورون في حلقات بقفاطينهم المتطايرة التي تأخذ الروح معها

في رحلة الى خلق الالهي  فامتدت اصابعها لتكشف الستار و تطّلع بوجهها

القمري الى واجهة النافذة تنظر بسعادة تتمنى ان تحلق معهم ان تطير ان

تعبر روحها المجرات ان تقترب من الله ان تمسك بيده و تحتضنها و

تقبلها حتى بدت الدموع تجري على خديها و رفعت رأسها للسماء و

اغمضت عينيها و ابتسامة شفتيها حتى باتت روحها تحلق مع المحلقين

و النسائم تضرب وجهها في ملامسة عاشقة انسجمت حتى ارتوت ثم

فتحت عينها لتقع في عيني سيدها الذي كان اقرب اليها من انفاسها وما

هي الا ثوان حتى رأته يخر على االارض صريعا ، فاهتز قلبها برعب

وامسكت الستار تغلقه على وجهها و ماج جسدها و ضمت نفسها و

اتجهت الى فراشها تدس نفسها فيه و االألم كان فيها عظيما .

راعيل تلك الطفلة الشابة النقية البريئة ، التي روضت نفسها و طوعتها

لخدمة الرب وسخرت روحها لخدمة رعاياه على االارض فكم كانت

سعادتها كبيرة حين شفي الأطفال في المعسكر على يديها جعلها تشعر

بشبع ما بعده شبع . زهدت في الدنيا منذ نعومة اظفارها ، راعيل لم ترى

في نفسها ما تراه عيون االآخرين فيها ، هي ترى نفسها ناقصة فلا جمال

بال حب الاله ، و لا عز االا برضاه ، ان مال عليها الزمن فبأمره و ان

رماها في صحراء فستنتظر منه جذوة من نار ، وان رماها في بحر

ستنتظر ان يلتقمها الحوت ، هو مسخر القدر و ما خلقنا الا لأمر !

و لم تفهم راعيل يوما مغزى ان يخلع الرجال سراويلهم امامها ، فلما ،

كان هذا هو دائما سؤالها ، فلا تعرف راعيل الا شهوة حب الاله ولذة النظر

الى وجهه و لم تعلم ان للبشر زينة اخرى و شهوات اخرى تبدأ و تنتهي

في فروج النساء!

راعيل شبت خارج صراعات االأديان و االأجناس لأنها تؤمن أنه يوما ما

ستعيش كلها في سلام !

صار الزين يتقلب على بساط السُهاد و هجر عينيه الوسن و تأججت

ضلوعه نارا فلا هو بمن وصلها و شفي من داؤوه و استراح و طابت

نفسه و لا هو من يقدر تركها فتغتم نفسه و تذوي ، قد كره ما وصل اليه

من ضعف صار علكة في افواه المجانين و الحاقدين و ما امره باليسير.

قد دعى الى مخدعه احد الجواري ليسألها من ذا الذي سكن القصر حديثا

، فجاوبته بالسلب ان لا احد قد قدم حديثا و سكن القصر .

فهاج عليها و ماج اذن من الذي يقطن الجناح الجنوبي ، فهزت الجارية

رأسها دلالة فهمها االان لمراميه فقالت له أنها العجوز التي استدعوها

لتداويه !

صرفها من امامه و خرج من فراشه كالجثة الهامدة مزرق العينين مسود

الجفنين على حال لا يطاق من توجع البدن و سقم الفؤاد .

فاتجه تلك الليلة الى الجنوب و عبر عدة ابواب و ممرات و كان في كل

مرة يغلقها خلفه كي لا يفطن لامره احد ، حتى اذا بلغ مرامه وقف

مشدوها لصوت الغناء الذي يتردد صداه كأصوات حوريات شجية خرجت

من قاع البحر ، فجلس على الشرفة يصيخ السمع حتى هلت الدموع من

عينيه و صار يمسحها بغضب فما هذا بحق الله ما اصابه !

رجع الى غرفته دون أن يجرؤ على اقتحام خلوتها او االاطلالة في وجهها

الذي سبب له من دمار واسع حل بروحه و اقض مضجعه وقت الهجوع ،

فهل يرجع ليطلب ودها ام يترك االامر على حاله ، فلا والله ما كان هذا

حاله مع حنان و لا مع من سبقنها من نساء ثيب او عذراوات ، فهذه

شيء قدير قريب للقلب حد سن السكين تنخر فيه فيتآكل حتى يفنى ،

اعتصر قلبه ووجهه رافعا رأسه الى السماء راجيا من الله ان يرفع عنه

هذا البلاء الذي يسمى العشق !

الزين قد اصابه وصب !

اخذت قدماه تسيره كالنائم ساعة السحر كل ليلة الى مرقدها فساعة

يستمع الى سكونها و ساعة الى همهماتها و غناءها ، حتى اصابته

غضبة مرة فدخل الى غرفتها هائجا صارخا في وجهها

من انتِ يا امرأة

قد كان وجهها الى الجدار تهز جسدها و ترتل بضع ايات من التوراة ،

كانت تسجد تارة و تارة اخرى تقوم حتى اكملت صلاتها و هي ترتدي

كامل لباسها االأسود فاسدلت الخمار على وجهها و التفتت له و قابلته

فأجابته بثقة و هدوء بصوت فيه بحة عجيبة تذهل السامع : انا راعيل يا

سيدي -

من اي العرب او القبائل انت

كانت جادة صامدة و قوية و هي تلف كفيها على بعضهما البعض : انا من

بني يهود يا سيدي صمتت لبرهة ثم زادت على قولها من عرب اليمن !

تجهم وجهه و حدق فيها من اخمص القدم حتى ناصية الرأس : وما هي

تلك الكلمات العجيبة التي تسحرين بها البشر

اجابته وهي تهز رأسها : انها االآرامية يا سيدي

لما ترتدين هذه الملابس

انها تريحني يا سيدي و تجعلني انظر للناس بتجرد !

ما تقولين فيّ يا راعيل !

صمتت كثيرا حتى بات يظن انها لم تسمعه ، بل هي كانت تصوغ جملتها

كي لا تظهر بها فاجرة في قولها فيغضب منها غضبا شديدا ثم يبطش بها

التقطت انفاسها : قواد سيد قومه !

عندما رأيتك اول مرة استعذت بالله منك و من بطش يديك !

انت يا سيدي مثلك في التوراة حين قال الرب

الذين في أْيديهْم رذيلة، ويمينهْم ملآنة رْشوةا. ) سفر المزامير 26 (

قد راعه و صدمه و حشره في زاوية ما قالت على مسامعه ، قد لخصت

حاله هو سيد قومه و عزيزهم بكلمة واحدة من نار ان اجتمع الانس و

الجن كي يلقونها في وجهه ما قدروا و لكنها فعلت : قوّاد

ولما كان الجحود و الطمع سمة جلية في بني البشر لنيل بغيتهم لما

يشتهون فقد اقترب بخطوات عريضة سريعة منها و هو يمسك بعضدها

بين يديه و يهزها هزا شديدا ارتاع منه خافقها حين زبد في وجهها : اذن

استعدي لتكوني خليلة القواد بعد ليلتين يا راعيل !

خرج كما دخل و تركها على جمر الغضى !

ليلتين !

لا بل ليلة واحدة هي كل ما يحتاج يحي لاخراج راعيل من القصر و

تسليمها و ترحيلها كما رغب اخاه ، و لان يحي لم يكن لديه خبر لما

يحصل في خافق اخاه بسبب العجوز فقد كانت خطته تسير على ما هي

عليه !

أن تفتح الصراحة باب جهنم ، ان يحملك القدر مالا تطيق ، ان تقودك

نواياك الطيبة الى ارذل الخلق ، ذاك ما جعل راعيل تفقد سيطرتها على

نفسها ، مجرد طفلة قالت حقيقة يستغلها فيها االآخرون ، وبعد االامل و

الوعد بالرحيل ها هو امل ووعد بجعلها سبية و ملك يمين بعد ان كانت

حرة ابنة حرة ، اخذت دموعها تنهمر كما لم تفعل منذ ان تغيرت حياتها و

خطفت و سبيت و دخل عليها الرجال و انكشفت عليهم ، ثقل شديد يرزح

فوقها ، و شهقات مريرة خرجت من حنجرتها ، الهذا الحد ايها الرب

تتخلى عني !

انا من عبدتك و جعلتك خليلا و حبيبا و عشقت مجدك و ملكوتك ، عشقت

اسمك و سخرت نفسي لخدمتك !

هذا ما كان يجول في قلب راعيل البريئة الرقيقة ، و على غفلة من قلبها

التمع عقلها بفكرة شيطانية ، االا يقال ان كيد النساء معلق في جيدهن

ساعة اردنه يخرجنه ، وها هي راعيل تفكر في اقذر عمل تفعله في

نفسها !

لم تنم ليلتها بل ارتدت ملابسها و خرجت تتسحب في القصر تتجسس فيه

على سكانه ، و قد كان الوقت قبل الفجر بساعات معدودة ، كانت تمر

بالاببواب و االازقة في خفة و سرعة كما كانت تفعل اخت موسى حين

دخلت قصر فرعون تتحرى امر اخاها بأمر من امها فكانت تتجسس ولم

يرها احد قط !

كانت قد وصلت ساقيها الى حمام الجواري فأطلت عليه برأسها و دخلت

تتسحب وراء اعمدته حتى وقعت عيناها على مقصدها فها هما هناك على

نفس الحال كل ليلة منذ ان حضرت ! ، كانت هناك في زاوية الحمام خلف

ستار جاريتان تتساحقان ، فالتمعت عيناها بمكر لم تعرف انه فيها

فسبحان مقلب االحوال . اقتربت حتى ظهرت عليهن بالجرم المشهود ، و

بعد الصدمة و التهديد و االأخذ و العطاء اشترطت عليهن فوافقن على ما

تريده !

ليلة واحدة هي كل ما يحتاج المرء ليفجُر او ليتوب او ليحقق نجاحا او

ليصل هدفا ، ليلة واحدة اتفقت فيها راعيل مع الجاريتين ان تجيئا لغرفتها

و ان يفضا بكارتها !

نعم فراعيل قد قررت أنها لن تكون المقهور بل القاهر و لن تكون

الضحية بل الجلاد و لن تكون سبية يطأها السيد بل حرة نفسها واذ علمت

من جواريه و نساءه انه يستأنس من مجامعة العذراء و يبقيها بجانبه و

تظل اليه احب جواريه فقد قررت ان تزيل هذه العذرية بنفسها و تقهر

حاله .

قد جاء الوقت المعلوم عند غروب الشمس في االأصيل اقتربت الجواري

يتهامسن فدخلت عليها احداهن متقلقلة تقول لها بأنهن اتفقن مع سيدة

عجوز خبيرة ستقوم بفض بكارتها حتى لا تتضرر فيقطع رأسيهما و ان العجوز

تنتظر امرها على عتبة الباب ، فأومأت برأسها بعد أن تزينت كعروس

ليلة دخلتها فصبغت كفيها بالحناء و تحممت و ارتدت الحرير و تزينت

بالحلي و جلست على السرير تكشف لأول مرة عن وجهها البهي الخلقة

و شعرها الحالك السواد حريري الملمس و بجيدها الزبدي الأبيض

الوردي ، طلبت منها الجارية ان تتمدد على السرير و تفتح ساقيها و

ترفعهما ففعلت بقلب بارد ما امرت و هي تغمض عينيها و الربكة

تصاحب جفنيها المهتزان بخوف ، كانت ترتل ايات من المزامير حتى

اطمأنت نفسها و غابت بروحها عن الدنيا و في تلك اللحظة دخلت العجوز

و ازاحت الستار و ركبت السرير فثقل بهما و تملكت اوصال راعيل

رعشة شديدة حتى اصطكت منها اسنانها و خارت منها قواها وهي ترى

ظل العجوز يقترب و هي تباعد بين ساقيها و بلحظة كانت صرخة راعيل

تهز المضجع فتفتح عينيها فتجد عيني سيدها في وجهها !

نعم ان كان كيد النساء عظيم فكيد الرجال اعظم ، فالجاريتين كانتا محبتان

لسيدهما و مطيعتان له فما هان عليهن ان ينفذن ما امرت به راعيل قبل

اطلاعه على االأمر ، و بخبثه و دهائه امرهن ان يبقين خطتها كما طلبت

و هو سيتنكر بزي عجوز و ساعتها سيدخل بها !

تصلب جسد راعيل و ذ هلت حتى ذهب عقلها و صار جفنها فقط يتحرك ،

اما الزين فكان كمن فتح دولة و قتل فيها و سبى ، فصارت نفسه ترقص

و تطرب لوصالها فكان ان نزع عنها لباسها و كشف عليها فتعلق قلبه

بها اي تعلق فصار يمارس الحب معها حتى يشفي غليل لقاؤها ، فكان

عنيفا تارة ، رقيقا تارة اخرى ، يذيقها من اشكال و انواع الحب ما لم

تعرف من قبل وقد ادبر و قدم و اولج و ارتخى و عانق و قبل و رشف و

رهز حتى طابت نفسه و هنيء عيشه و سكنت روحه و ارتخت اطرافه و

نام قرير العين ثقيل الجسد كصخرة صماء و لم يدرك الزين ان االأوطان لا

تبنى على الخديعة .

قامت راعيل من مرقدها بعدما نظرت له نظرة الميت فالجسد استبيح و

دنس دون زواج ، فلبست زيها االأسود قبالة الفجر و خرجت تجر ساقيها

بعد ان اغلقت الباب و لما تقدمت قليلا بخطواتها واذ بيحي يقبل عليها

يستعجلها ايتها السيدة العجوز قد ان وقت الرحيل !

قام الزين من نومه و تحسس فراشها و لم يجدها ، فالتفت يبحث عنها و

هو يلتقط شيئا من زينتها و لباسها فأخذ يشمها نشوانا حتى بلغت

الرائحة عظامه فاهتاج جسده و طلبتها روحه فناداها و ما استجابت ،

تحرك يتحرى امرها فلم يجدها في كل الجناح فخفق قلبه و خرج يجري

كمجنون في انحاء القصر يبحث عنها و ما لقيها و في تلك الساعة كان

قلبه قد انفطر و خشي ان حصل لها مالا يحمد ، فبلغ الجواري و الحراس

بالبحث عنها فكان ان صب الحارس على رأسه الحميم حين اخبره انها

خرجت قرابة الفجر امرأة مع اخاه يحي .

حين حضر يحي و كان اخاه يتقلب على صفيح اللهب مسود الجسد

فأخبره انه قد ارسلها الى ديارها كما وعد .

فانهار الزين من وقته و طابت نفسه و هزلت روحه و انشق فؤاده و رفع

رأسه باكيا في وجه اخاه يضرب بقبضته على قلبه قائلا لقد قتلتني يا

اخي ، لقد قتلتني و اسرفت في قتلي !

اما ما حصل من شأن الزين فقد هجر ملكه و ماله و جواريه و نساؤه و

لم تعلم دياره فقد قال احدهم أنه رأه ينشد و يرقص مع جماعة صوفية في

مولد للنبي .

اما راعيل حين رحلت مع الرجل و تركت الموت و الخراب خلفها فقد

هاجمت جماعة القافلة التي هي فيها و نادوا عليها باالسم فلبتهم و

خرجت معهم الى المقدسات التي تمنت في حياتها ان تعيش و تموت فيها

، فعاشت في خورسلام مع والدها و قد كانت خادمة في المعبد اليهودي

و بعد عدة اشهر رزقت راعيل بطفل كأنه فلقة القمر اسمته تاج الزين

زوهر ، سخرته و نفسها لخدمة الديانة اليهودية .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الخامس و الأربعين

  أشعل سيجارة.. من أخرى أشعلها من جمر عيوني ورمادك ضعه على كفي .. نيرانك ليست تؤذيني كان يستيقظ هذه المرة بلا كوابيس ، بلا اجهاد ، المرة الو...