الجزء الثامن عشر
لنفترق قليلا
لخير هذا الحب يا حبيبي
وخيرنا
لنفترق قليلا
لأنني اريد ان تزيد في محبتي
أريد ان تكرهني قليلا
يميته التردد فهو ليس هكذا ، هو المتحكم دائما في نصاب الامور
قد عُلقت كل قضايا العائلة في عنقه و هذا حمل كبير جدا ، جدا كبير
في حال اصابه مصاب اختاره والده ليكون وليا للعائلة من بعده نصبه كبيرا على عائلتهم رغم انه لم يكن الكبير
فهو ليس بالعصبي وليس بالمتسرع و ليس بالمتكبر
هو متوازن تماما فلا يعطي اي شيء اكبر من حجمه او انه يقوم بتحجيمه ، هنا القبضة من الحديد و الغلطة بورطة ولا مجال لأي فوضى
هناك مواقف تحتاج منه الحسم و القسوة
مثل اليوم نعم مثل اليوم
يجب ان يحسم امره مع ماجدة وان تخرج صبا معه ان رغبت ام لم ترغب فهذا الامر طال عن حده ولابد له من تقويمه وارجاع كل شيء الى مكانه والى ما كان عليه .
تجمد وجهه وهو يخرج من سيارته التي كان يقودها بنفسها وبجانبه السائق !
حمل عصاته و عدل طرف قميصه الابيض الذي يرتديه على سروال قماش اسود ، يبدو في قمة عنفوانه و كذلك يبدو شابا في ريعانه و قوته
اتجه الى الباب ، الى هذا البيت الذي بدأوا منه جميعا حياتهم
البيت الذي جمعهم جميعا تحت سقفه ، الحب و الحنية التي في ذلك البيت ، كان والدهم قاسيا ولكن بحق ، كانت امهم الصدر الذي يلجأون اليه في كل ساعة فهي تحتضنهم و تقبل قمة رؤوسهم و تربت على ظهورهم ،و تفك العراك بينهم ، فهم ذكورا يحتاجون الى الحب بقدر ما يحتاجون الى القسوة و تعلم الرجولة ، امهم كانت لهم الامان و الخيمة التي جمعتهم كاخوة لم يتفرق جمعهم بل لا زالوا على قلب واحد !
دق الجرس ووقف منتظرا بكل عنفوانه رافعا رأسه، مشذب اللحية التي يعتني بها خير اهتمام ، مقصوص الحاجبين المتعاقدين و مسرح لشعره الذي لازال غزيرا ولم يفقد منه شعرة ولا زال يتمتع بالنعومة المخلوطة بالشيب وكان عطره يتفوق على كل ذلك !
عندما فتح الباب تقدم بخطواته ، خطوات جريئة ولم تكن مترددة
ففي كل مرة كان يحاول ان يزور امه يرتعش منها ومن رد فعلها
انه يحزن على انها لم تحضنه منذ زمن ولم ترضى عنه و تركته يهيم على وجهه ، مهما كان هي امه وهو يحبها و يتمنى ان تعامله معاملة ترضيه والا تلتفت عنه والا تجيش قلبها ضده ، ألن تلين تلك العتية !
كن هن الثلاثة في الداخل ، الجدة التي تتكيء على فراشها مغلقة عيناها فالزمن قد فعل فعله بها ، قد هد قوتها و قد اجرم اولادها في حقها
هي ام ام قد فقدت ابنا في شبابه
محمود الذي لم يكد يتمتع بالحياة الا وقد خطفته بسكتة قلبية اسكتتها هي ، قد اجرمت الحياة في حقها ، محمود ذاك الولد الهاديء الرزين الضعيف
محمود الجميل الذي لا زالت تداعب شعره و تغمر انفاسه على صدرها
محمود الذي تبكيه صبحا و عشيا فلذه كبدها وجزء من روحها هو ذاك الصبي كان ، كان موت محمود فاجعة من الفواجع التي وقعت عليهم جميعا ، فهو لم يشتكي يوما كي يموت هكذا و يتركهم بهذه السرعة .. حتى عرفت السبب !
لا زال الحزن يغشى عينيها منذ ذاك الزمن ، كرهت ان يتزوج صالح ميادة التي كانت حبيبة محمود ، قد قاتل من اجلها ، تلك الفتاة التي اغرم بها و خطفت قلبه و اوجعته ، تلك الفتاة التي حاربهم من اجلها ، ميادة كانت ابنة ضابط من الضباط الذين القوا القبض على جدهم الكبير زكريا
ضابط من الضباط الذي زجوا به في السجن و عذبوه ، و احد الضباط اللذين جمعوا كل دليل ممكن كي يُعلّق زكريا الكبير على حبل المشنقة !
لم يكن الامر سهلا ، فبقدر ما كرهت ميادة بقدر ما حنت على ابنها و حبه لتلك الفتاة !
كانت ترقد على الارض لم تحرك ساكنا ولا قلبها استمال لذلك الصبي الذي دخل لتوه عليهم
تعرفه تعرف نقرات صوت حذائه وتعرف انواع عطره التي يستخدمها و تعرف الصمت الذي يلف قلبها حين يأتي .. صالح الفتى المغضوب عليه !
استقرت في مكانها وظله يقع عليهم و ماجدة التي كانت تجلس على الاريكة بين يدها كرتين من الصوف و ابرتين عندما سمعت بحضوره تنهدت ثم اغلقت عينيها لبرهة ثم فتحتهما ثانيتا وواصلت عملها المتقن بيدين سريعتين تنسجان بلوفر اشتهت ان تخيطه لصبا المدللة التي وقفت لأبيها احتراما و اتجهت له وهي تقبل يده : اهلا بك يا ابي
وقف هناك معقود الحاجبين غضن جبينه بقهر و هو يقول : كل الوجوه تعبر عما في قلوبها .. فالام لا تريده والزوجة ايضا !!
خلع حذائه و تقدم الى الداخل الى حيث الدفيء فرائحة البيت هي هي منذ طفولته لم تتغير هي رائحة استوطنت و تميعت في دمائه ، هي رائحة الحنان و الدفء كلها هنا ولكن لم تعد تحيه ولا تضحك في وجهه كما السابق ، مكفهرة دائمة وواجمة المحيا ، ما هكذا عرفها ما هكذا كبر عليها
جلس مقابلا لهم ينظر الى وجوههم ونظرة طويلة الى تلك العتية التي لم يتتحرك فيها شعرة من صوته او من روحه التي تتوق الى حضنها ، حضن الام .
استند لوهلة على عصاته بذقنه و هو ينظر الى يده اليسار التي يعد بها حبات المسبحة التي تتدلى منها ، كان يفكر بعمق ، هذه اللحظة او هذا اليوم سيكون حاسما ، فيكفه انه تحمل سكرات ماجدة لفترة طويلة ، كان صبورا معها بل ونفذ كل امر هي طلبته منه و كل شيء فعلته معه كأن تطرده من غرفة نومه و تحرم نفسها عليه و تجرم في حق نفسها معه و تبعده بالقوة عنها هو المتعلق بها منذ الصبا ولذلك سمى صبا ، سماها على محبته لتلك المرأة من صباه فكيف كانت تتوقع ان يفترق عنها و تتركه يعاني مر بعدها عنه هي التي انجب منها الرجال هي التي في محنته يرقد على صدرها تطبطب عليه و تمنحه الطمأنينة
كثير هو ما بينه وما بين ماجدة وهو ليس جاحدا وليس ناكرا
لقد ارادها و يريدها ولكن يجب عليها هي ان تختار اما ان تغادر معه لبيتهما او شيء اخر : الصديق سيحضر اهله الاسبوع القادم لتحديد موعد الزواج
وضعت الصوف جانبا و تركت الابر و حركت يدها في حضنها ، لا تنظر اليه ولا تلتقي مع عينيه ، فأكمل : يجب علينا جميعا العودة الى البيت
نظرت صبا الى امها الممتعضة ، نعم هو هكذا ، لا تفسير ولا اعتذار ، توقعت ان يشرح لها ان يقل شيئا يخص مشكلتهما ولكنه مثل الدائم يدور ويدور ولا يصل الى ما تريد
التزمت الصمت فهي لا تريد ان تتحدث معه ولا ان تخاطبه الى ان يعترف بكل شيء ، كل شيء يخبأه و يهدد حياتهم !
رفع حاجبا مستنكرا ردود افعالهم ، فوجه نظرته الى صبا ، نظرة لم تبشر بالخير ففي هذه المرة سيتفشش بشخص اخر غير ماجدة و صبا كانت هناك و تساندها و تعصيه هو والدها : ها يا صبا ماذا تقولين
نظرت الى امها و هي تجمع شعرها خلف اذنها : قد قلت لك يا ابي لن اتحرك من هنا حتى تخرج معي امي !
كانت كلماتها واثقة و مصره وهو انتفخ صدره بالغل و القهر الكل يريد ان يضحك عليه الناس ، كان الغضب يتسرب رويدا الى كلماته و في لهجته و دمه بدأ يفور فتكلم من بين اسنانه : لن تزيدي على ما قلت يا صبا ، ستخرجين معي و ستعودين و ستستقبلين الزوار كذلك بوجه بشوش
تجمعت الدموع في عيني صبا التي لم تعد تحتمل ، هي ليست فقط البقرة التي ستذبح فداءا لأهل البيت بل ايضا ضحية لهم و لأعمالهم ، كانت الدموع تتسرب الى خديها و شفتيها تحمران وضعت يدها فوق شعرها و تدفعه بعنف الى الخلف : ابي لا تجبرني لن افعل قبل ان تعود امي
هنا قام من مكانه و اتجه لها و بكل قوته امسك قمة قميصها ورفعها بقهر الى الاعلى في حركة ارعبتها و ارعبت امها التي قامت له تشدها من يده تبعده عن ابنتها : ماذا تفعل هل جننت
نظر الاثنان الى بعضهما البعض في قهر هو يتنفس بسرعة و هي تتحداه في نظرتها فانتقل بصره الى ابنته وهو يحذرها : آخر مرة تعصين اوامري ، قد تركت لك الوقت لتقرري و ترجعي و لم تفعلي والان سيسير كل شيء مثلما اريد
تركها لتقع و تصطدم بالواقع ، فاخذت تهز رأسها بقوة انا لا اريد هذا الزواج لا اريده صرخت في وجهه لا اريد الصديق لن اتزوجه
هنا جائتها صفعة من كف كان يوما عطوفا وكان لا يمده عليها الا كي يرفعها لا ان يذلها
صفعة فجعت كل من في الغرفة حتى الجدة التي كانت تسمع فتحت عينيها بذهول و رفعت رأسها
اما ماجدة التي استشاطت غضبا فوقفت امامه : اخر مرة يا صالح تضرب ابنتي اخر مرة
نظر لها نظرات مماثلة ان لم تكن اشر : انتي من علمها ان تتحداني وجه عصاه نحو صدرها ، كل ما يحدث بسببك و بسبب تعنتك ، ليس هناك من سبب يجعلك تتركين بيتك و تهدمين اركانه وانتي تعرفين كل ما يحصل فيه ، تعرفين ان يحي سيتزوج قريبا وان صبا على وشك الزواج بل تركتي البيت و زوجة ابنك ان حضرت لا تجدك ، ما هذا ما هذا
لقد صبرت عليك كثيرا يا ماجدة ولصبري حدود
هكذا نظراته لها كانت حاسمة هو يخبرها ان كل خطا هو منها وبسببها
ولكنها ردت على اتهاماته : نعم هو هذا انت ، تفعل الجرم ثم تتهمني به ،، هل انا من تزوج و هدم بيته وهدم العلاقة بيننا ، انا التي لا تعرف من هي اسيا
هنا نظر الى عيني امه ، امه التي تعرف كنه روحه نظرة طالت بينهما ولكنه رفع رأسه يتجاهلها : انا لا اعرف من هي اسيا التي تكررين اسمها على مسامعي كل حين
: كاذب
هنا لا يدري كيف رفع كفه و صفعها هي الاخرى صفعة ندم عليها حياته
صفعة اذهلته هو ذاته صفعة قطعت الشعرة التي بينهما صفعة جرحت الخد و الروح و قتلتها !
توقف الوقت و تجمدت الانفاس و صارت العيون فقط بكل الم فيها تحدق في بعضها البعض
هنا سمع صوت امه التي تحاول ان تقوم من مرقدها بصوت واهن ولكن حاسم : والله ان كان هناك شيء في قلبي لك قد مسحته يا ابن بطني وان كان في قلبي غضب عليك فاليوم قد ازداد ، اخرج من بيتي يا ولد ولا ترجع حتى اسمح لك دفعت ساقه بعيدا عنها : هيا اخرج اخرج لا اريد رؤيتك ولا سماع صوتك اخررررج كانت غاضبة اشد الغضب و عيناها تموجان نارا ، الهذه الدرجة تصل به الاحوال ان يضرب حبيبتها ماجدة امام ناظريها هكذا وصلت به الامور بعد كل هذه العشرة وهذا العمر
رفع نظره للسماء و ماجدة لا زالت واقفة مشدوهة مقهورة لا تصدق ان كفه الذي ينحني ليقبلها يرفعه هذه المرة ليصفعها
هي تصفع وامام ابنتها
كادت عيناها تخرجان من محجريهما لقمة الالم النفسي الذي وصلت له ، خرج صوتها مبحوحا مغموما بالكاد يسمع : انت اخترت منذ زمن والان اثبت لي ذلك ، طلقني
انتفضت صبا التي امسكت يد امها وهي تصرخ و تبكي : لا يا ابي لا تسمع لها لا ارجوك لا تطلق ارجوك
وكانت امه تدفعه اكثر من ساقه : قلت لك اخرج الان اخرج فقد زدت الطين بلة اخرج والا سأتصل بسعيد ليتصرف معك اخرج ايها المغضوب لعنة الله عليك من ولد
لكنه تجاهل كل ذلك و صراخ صبا التي تنظر بلهفة الى وجهه : تريدين الطلاق يا ماجدة
اعطته هذه المرة ظهرها تلملم صوفها و ابرها و هي تهم بالخروج موجوعة مقهورة ومحطمة و كرامتها اعز ما تملك : طلقني والا سأرفع عليك قضية
تركتهم امه تنظر بعتب و ابنته مصدومة و هو محتار في امره فهو يعرف انها ان حسمت امرها فهي فعلا ستطلقه في المحكمة ولكن ليس هكذا تورد الابل يا ماجدة ليس هكذا !
: ارتحت الان ارتحت ، في حياتك لم تحسب حساب اي احد منا ، لم تحسب حساب ان اوراقك ستكشف يا بن بطني ، مهما طال الهناء الذي تعيشه سيأتي يوم تنهار فيه كل بيوتك التي عمرتها من رمل !
اخااف عليك يوما لن تجد فيه احد من اولادك حولك !
مدت يدها لصبا كي تساعدها وهي تقول : ساعديني يا صبا و خذيني الى امك !
نظرت بشزر الى صالح الذي يتميز غيظا و ينظر لصبا نظرات تهديد و قبل ان ترفع جدتها هددها قائلا : ان لم تحضري هذا الاسبوع الى البيت من تلقاء نفسك سأزوجك و ستزفين بلا عرس الى الصديق ، ضعي عقلك في رأسك ولا تتأخري علي في ردك والا سيكون لي معك تصرف آخر لن يعجبك !
كل هذا العناد و التعنت الذي تعلمته من امك اتركيه خيرا لك و لنا جميعا فأنا لا ينقصني الان مشكلة اخرى مع الصديق ، كلما تقبلتي الامر اسرع كلما جرت الامور افضل
القى نظرة اخيرة الى البيت و اركانه والى الزاوية التي دخلتها زوجته شعر بالحنق و عدم الرضى لهذا التصرف الذي لا يليق بهما جميعا ، هو يحملها مسؤولية ما حدث و لن يعتذر لها !
استدار وخرج وعصاه تحفر الارض من غله و غضبه وهو ينظر الى كفه الذي يستحق الكوي فكيف فعل ذلك بماجدة حبيبة القلب كيف !
ولكنها استفزته اتنعته هو بالكاذب !!
رغم انه كاذب فعلا و كل الكتب السماوية تشهد على ذلك ولكن في قلبه حقيقة لا يريد الاعتراف بها وهي انه .. مذنب.. ذنبا لا يُغتفر !
تمارا
اما هي الفتاة المسكينة المعذبة التي منذ نعومة اظفارها صارت متنقلة بحقيبة واحدة من بيت الى بيت من بيت والديها الى بيت امها ثم خالها ثم الغربة ثم بيت هذا الرجل الذي تشعر بكل حواسها المتيقظة انه يخبأ شيء عنها وان هذا الشيء ليس بالذي قد يسر خاطرها
دعوته لابن عمه فور نقاشهما و حضور الاخر بسرعة له و اجتماعهما سويا لم يطمئن قلبها ، التيارات التي تعبرها من جسده تنبأ انه متوتر للغاية ، كان يمر عليها و يقف كثيرا فقط يحدق فيها و يسرح عنها
كان يجلس يراقبها و يراقب حركتها
كان يلحق بها خطوة خطوة خوفا من اي شيء قد يحصل لها وهي بهذه الحالة
القلق احتل عقله !
لا يدرك تماما انها معتادة على فعل كل شيء بيدها و الحركة بحرية في اي مكان تتعود عليه
هي تنظف الارضية و ترتب الوسائد و المقاعد و ترتب الغرف و تمسح و تغسل و تطبخ وكأنها مبصرة ، لكن هو قلبه غير مطمئن يظن في كل لحظة انها ستقع انها ستحرق نفسها انها ستنهار هكذا فكر ولكن لا يخطر له ان تمارا اقوى مما يتوقع !
كانت العلاقة بين والد تمارا و امها رائعة و آمنة و مستقرة تماما فهما ابناء عمومة ، الى ان انجبا الفتاة عمياء و قالوا لهم في المستشفى انه بسبب الجينات !
منها انقلبت حياتهما ، قد ولدت له بنت وفوقها عمياء وهذا امر لم يسر خاطره بل حوله الى مجرم ..
نعم قد اجرم بحقها حين لم يصبر مع زوجته على البلوة التي ابتلاه الله بها ولكن طلق زوجته و اعطاها البنت و ابعد نفسه عنهما ، الامر الذي سبب شقاق كبير بين العائلتين ، فما ذنب ابنتهم ان تطلق بسبب امر خارج عن ارادتها ولذلك لم يرضوا ان تربي ابنتهم الفتاة العمياء و تتحمل مسؤوليتها لبقية حياتها ، فهي لا زالت صغيرة و جميلة و سيأتي من يتزوجها و يستر عليها وليس مثل ذاك الجاحد المتهرب من مسؤولياته !
رموا الفتاة المولودة حديثا له بعد عراك و سباب : خذ ابنتك نحن لسنا مسؤولون عنها ابحث لها عن مربية تربيها لك !
اصبحت الفتاة بين يديه ولم يحتمل صبرا ان يكون راعيها و ان يطعمها و يسقيها فالفتاة رضيعة تريد ثدي امها وليس اصبعته التي يضعها ليلهيها احيانا عن الجوع !
ثارت ثائرته وهو يقود سيارته ثانيتا لهم ومعه الفتاة في الخلف تبكي و بكاءها يفطر قلب الملائكة فهي منذ ايام لم تاكل ولم تشبع فهو كان يعطيها ماء و سكر فقط
حين وصل الى الحي و ضرب على الباب يحمل البنت المسكينة التي بدأت حياتها ترميها وتتلقاها الايادي و المشكلة انهما والديها هما من انجباها وليست هي من اختارت ان تكون معاقة في نظرهم
كان هناك بالصدفة البحتة خالها و زوجته ، عندما سمع دق الباب خرج ليرى ما الامر واذا به يرى تلك الصغيرة ملفوفة في غطاء خفيف و هي تضع اصبعا في فمها و تبكي بعبرتها و هناك والدها يقف فاقدا لصبره و معه فاقد لشعور الابوة الذي منحه له الله عندما رأى وجه الخال القى عليه الطفلة و فتح عينيه بتهديد فيه وهو يزمجر : خذ البنت واعطها لأمها منذ ايام لم اذق طعم النوم اعطها اياها و اياها ان ترجعها لي فأنا لن استطع ان اربيها ولا ان اعتني بها ولا ان اطعمها اعطها لها تلك المهملة !
حسنا ظهر ان شقيقته مهملة و هي المغصوبة على كل ما يجري، عندما سمعت صوت بكاء ابنتها خرجت تجري لها و هي تبكي بحسرتها التقطتها بسرعة وكانها تخطفها من حضن خالها تقبلها بجنون و كل دمعة تغطي جزء من تلك المسكينة حين خرج لها والدها و من خلفه امها : ذلك الجبان كيف يحضر البنت الم نقل ان يربيها هو انتي لن تتحملي مسؤوليتها
ولكنها تمسكت بها وهي تصرخ بدموعها التي اعمت عينيها : دعوني و شأني مع ابنتي لن ياخذها مني أحد
حين خرجت لها امها : يا بنتي البنت ستخرب لك حياتك و لن تستطيعي ان تعيشي بسلام والدها تخلى عنها وهي في رقبتك الان و ان حصل لها اي شيء سيطربق الدنيا فوق رأسنا و سيحملنا مسؤولية اي خطأ قد يحدث معها ، البنت ستعطل لك حياتك ولن تتقدمي طالما هي عندك ، فلن يرضى طليقك ان تتزوجي وهي عندك وانتي لن تستطيعي ان تبني عائلة مرة اخرى .. فكري جيدا قبل اي قرارات اعتباطية متسرعة !
اخذت تبكي بقوة و صدرها يهتز : اليس في قلوبكم رحمة انها ابنتي لحمي و دمي كيف اتخلى عن قطعة مني كيف !
امي كيف يهون عليكي ان اتركها ، والدها لا يريدها ولم يحتملها و طلقني من اجلها و الان هو لن يضايقني هو يريد ان يرتاح منها اذا ليس هناك من مشكلة .. ارحموني بالله عليكم قبل ان تقولوا اي كلمة تجرحني
تكلم والدها بلا رحمة : قلت لك البنت لن تعيش بيننا و انتي سوف تتزوجين قريبا ولن يرضى احدهم ان تاتي له ببنت حديثة الولادة وفوقها لها متطلبات خاصة إن تقبلها الان لن يتقبلها فيما بعد حين تزداد مصاريفها وحركتها و مسؤوليتها
اخذت تحضن بنتها و تشم رائحتها و هي تنهار ارضا بها و تهدهد البنت التي تبكي بين يديها : حرام عليكم ما تفعلونه بي والله حرام حرام حراااام
هنا تكلم شقيقها بشفقة عليها وهو يقترح في حب : حبيبتي ما رأيك ان تبقى البنت معك الى حين جاءك النصيب و تزوجتي ثم اخذ انا تمارا لأربيها مع زوجتي !
نظرت له في ذهول ولا زالت الدموع تنهمر ولم تلق شيئا اخر لتتفوه به فكل عبر عن رأيه ورأيها هي لا يهم حين قال والدها : ونعم الرأي يا ولدي ونعم الرأي !
وهكذا حصل لم تتجاوز تمارا السنتين حتى جاء خاطب لامها التي وافق اهلها عنها و تزوجت و عاشت في الثبات و النبات و خلفت هي ايضا صبيانا وبنات و اصبحت تزور ابنتها الحبيبة كلما تخطر على بالها ففي زحمة الحياة قد ننسى اننا قد انجبنا ولنا اولاد ينتظرون منا حضنا ، ينتظرون منا شوقا ، ينتظرون منا الحنية في مكان ما ولكن كلا الطليقين لم تعد تمارا جزء من حياتهما ولم تكن يوما محورا بل عاشا كأنهما لم يتزوجا ولم ينجبا يوما بنتا اسمها ... تمارا !
كان خال تمارا حنونا جدا وان لم يكن لها والد تمنت ان تكون ابنته من لحم و دم ، عاملها بكل عاطفة ابوة في قلبه عاملها كأنها من صلبه و لم تقِل زوجته عنه في عاطفته لتمارا التي شعرت انها قطعة من السكر ، خصوصا انه بعد عمر من الزواج علم الزوجين انهما لن يرزقا بأطفال و كان وجود تمارا يعوضهما عن شعور الابوة و الامومة الذي لن يعيشاها في الواقع
وهي كبرت ولم تخيب ظن احد عاشت تستمع لهما و لنصائحهما
اذا تمنت شيء في يوم من الايام تتمنى ان يرجع الله لها بصرها لثوان كي ترى وجيهيهما الحبيبين ، فأي قلب و اي عاطفة واي طيبة كانت في هذين الزوجين
حين جاءت لخالها بعثة لبريطانيا من شركته العاملة في قطاع النفط ، اخذها معه و هناك بعد سنين تحولت حياة الاسرة كاملة و تحولت معه تمارا !!
الان وهي تقف على عتبة باب المطبخ تمسح يدها وهي تسأله في عفوية : هل تحب شيء معين مع الرز والدجاج ام تحبذ ان اطبخ لك ما ترغب
كان يقيس بنظره جسدها الواقف امامه من رأسها الى اخمص قدميها لم يتردد في الجواب : سآكل كل ما تطبخينه !
هنا شقت شفتاها عن ابتسامة رقيقة تشكره فيها ، فهو لم يعقب على انها عمياء ولن تستطيع ان تطبخ او ان في اسوا الاحوال ان تضع شيء بدل شيء في الطبخة
استدارت وهنا قام من مكانه يلحقها ، كانت الان تفتح الثلاجة و تخرج محتويات السلطة ، يراها تغسل و تقطع وكأنها صحيحة
ذهب الى الفرن ليرى من خلف زجاجه دجاجة تتحمر و منظرها شهي ، تعجب منها ، فهو في حياته لم يخالط اي احد ضرير ولا يعرف كيف يتصرف هؤلاء وكيف يشعرون وكيف استطاعوا تقبل الواقع وعاشوا حياتهم كما يرى الان مع تمارا ، استند الى باب الثلاجة وهو يعقد ذراعيه و يغضن حاجبيه يسألها : غريب امرك ، متى تعلمتي كل ذلك
التفتت لبرهة عليه تلقي عليه تلك النظرة التائهة التي يحب ثم ابتسمت ثانيتا بثقة تقول : الامر في بداية الامر كان صعبا يحتاج مني ان اتقبل وضعي خصوصا بين اقراني فكلما كبرت كلما تغير رأي الناس بحالتي فمنهم من صعبت عليهم و شعورا بالشفقة ومنهم من حاول استغلالي ، وهنا سكتت لبرهة وكأن كرة من الحرقة والحسرة تحرق حلقها فخرج صوتها مشتتا باهتا : ومنهم من استغلني
شرد بعيدا عنها يلوي رقبته ينظر الى النافذة و الضوء في الخارج
يشعر بالمرارة تخترق حلقه و تسده له
يشعر بالحزن يغطي عينيه
هو يعلم انه يستطيع ان يبكي امامها دون ان تعرف انه يبكي
يستطيع ان يُخرِج الى السطح كل رد فعل تجاهها وهي لن تراه ولن تدرك
ولكن يشعر بانه يريد ان يختصر الامر على نفسه و عليها والا يشعرها بالذنب كما نصحه يحي !
جاءه صوتها مترجيا على غير عادته وهي لا زالت تحاول ان تتماسك و هي تقطع السلطة : هل ستسمح لي ان ارى خالي و عائلته !
هنا اغلق عينه بحسرة وهو يكاد يدمع كان يكرر كلمة تبا تبا تبا مرارا في جوفه أبعد كل ما فعله تسأله ان يسمح لهم برؤيتها ، يا الهي كم هي مسالمة و رقيقة ، رقيقة جدا
هنا لم يحتمل الا ان اقترب منها خرجت منها اهة صدمة عندما لف ذراعيه حول خصرها و جذعه يلتصق بالكامل بجسدها الذي اصبح يحترق فبالكاد تقف امامه الان وهو يحضنها بهذه الطريقة الحميمة التي قشعرت له بدنه هو الاخر ولكنه تجرأ ووضع رأسه عند عنقها و اخذت شفتاه تقبله بحميمية وهو يهمس : هذا بيتك افعلي كل ما تريدين !
لا يدري ما حصل له يشعر انه يريد الالتصاق بها للأبد
رائحتها رقيقة جميلة عذبة
صوتها كأغنية لفيروز في صباحات رائقة و شعرها كانه الشمس وقت طليعتها يتموج الى خصرها و عيناها بلون البحر المتماوج لا يعرف ان كانت خضراء تماما ام زرقاء ام ما بينهما ، جسدها رشيق لطيف مثل الحلوة يميل مع ميله
اخذ يغمرها اكثر الى صدره حتى انطبقت اعضاءه على جسدها وهي لا زالت ترتعش بشدة ومع ارتعاشها تساقطت دموعها وصوت بكاءها الذي حاولت ان تكتمه بيدها وهي تهز رأسها
ان كان آيدين يطلب منها حقوقه كزوج فهي لا تقدر على ذلك لا تستطيع ، لا تريد ان تخذله : آيدين ارجوك انا لا اقدر
: اششششش خرجت منه الهمسة وهو يغمر مزيدا من انفه في عنقها : لن اطالبك بشيء صدقيني فقط دعيني استمتع بهذه اللحظة .. ممكن !
رفعت رأسها للسماء وعيناها تبكيان دما اغلقتهما وهي تدفع بجسدها باتجاهه تريد حضنا ودفئا و ... حبا !
ماذا عن منذر الذي كان في غرفته يدخن بشراهة و احيان كثيرة يفتح كيسا مخدرا يشفطه مرة واحدة في انفه ثم يجلس و يدخن سيجارة اخرى وهكذا توالت الساعات بين سجائر و مخدرات وكل اهله يعلمون بحاله فهو قد زاد الطين بله حين ترك صبا و قريبا ستتزوج من غيره
غيره من نصب له الفخاخ كي يصل الى هذا المستوى
فحين يذكر ماضيه وكيف وصل الى هنا يحترق قلبه و يجعله يائسا لدرجة التحسر فيدخن ثم يحشش واحيانا يخدر نفسه
قبل سنين
ذاع صيت جنين في المشفى ، لما ، لأنها بصراحة بارعة في عملها ، فهي تعمل معهم وكأنها طبيبة ، هي تعرف كل صغيرة و كبيرة عن عمليات القلب و تعرف ماذا تفعل في الاوضاع الصعبة و تعرف كيف تهدأ المريض وكيف تتكاتف مع الاطباء و الممرضين
كانت بشوشة و تعطي دون اي موانع تذكر ، حتى انها كانت تجمع طلبة الامتياز و تعلمهم الكثير من الاشياء عن عمليات القلب وكأنها ليست ممرضة بل طبيبة متمكنة !!
اثارت اعجاب مُلّاك المستشفى فترقت واصبحت رئيسة الممرضات واصبحت تصول و تجول في المستشفى و تخدمه من قلب ورب !
شكلها المدلل لم يكن يدل على انه وراء هذا المظهر الانثوي المتفجر امرأة عاملة و محبة لما تعمل و ذكية ايضا !
والمنذر كان احد من طرق الاعجاب بها بابه ، فكان يطلب منها تحديدا ان تساعده في عملياته او تذهب لتحضر عنه محاضرة و اصبحت الامور تتعقد وتتشكل بينهما
بقدر ما كان حبه لصبا يغطي عن كل علاقة اخرى بقدر ما كان الانجذاب نحو جنين واضحا .
كان يفكر ان الاعجاب بها هو ضمنيا اعجابا بعملها واجتهادها و اثباتها لنفسها في فترة قصيرة جدا لم تتعد اسابيع حتى ارتقت واصبحت اسما يتمنى اي طبيب هنا في مشفى القلب ان تعمل معه
حين كانت تدخل عليه مكتبه
اطلالتها كانت مذهلة ، شعرها متطاير وعطرها الخلاب يسبقها و ملابسها تحت المعطف الابيض لم تستر اي شيء مثير فيه كبطنها الذي يبرز او مفرق صدرها الذي يهتز او ساقيها المتهاديتان وكأنها عارضة ازياء في ثياب تمريض : دكتور منذر الساعة تجاوزت الواحدة وانت لا زلت في مكتبك
كان ينزل النظارة عن عينيه ويقول في تعب : اخ يا الهي قد نسيت الوقت غدا عندي محاضرات في جامعة العرب الطبية و لدي عملية بعد العصر وفي الليل لقاء مع زميل من جامعة القاهرة !
كانت تلتف حول كرسيه وهو ينظر لعينيها ، تقف خلفه و تضع كفيها على كتفيه العريض وتبدأ بتمسيج عضلاته برقة حتى يغمض عينيه و يرتاح ولا يعد يفكر : دكتور منذر عليك ان تنتبه الى صحتك فليس جيدا ان تفقد تركيزك غدا في العملية !
تتحدث ورأسها يعبر من خلفه الى جانب وجهه ، كان يتنفس بصعوبة لا تدرك حين فعلت ذلك ارتبك جدا من اقترابها من خده واخذ عطرها يخترق خياشيمه بقوة فيخدره
كانت تهمس قريب من اذنه : استرخي يا دكتور عليك بالاسترخااااااء التاااام
وكانت كلماتها ترخيه حقا فكل العوامل ساعدت ، الاضاءة الخافتة وهدوء العيادة و حركة يدها خلف عنقه والدغدغة التي تصل الى اعصابه و تكهرب نهاياتها و حروفها ودفيء صوتها !
ثم فجأة : حسنا يا استاذي علي ان امر على قسم العمليات و الطواريء
تمر من امامه بعدما وترت كل شيء فيه ودفعت الدم في عروقه وترحل هكذا كأنها لم تفعل شيئا .
كان اللعب مع جنين كر وفر ، هو لا يعلم انها لا تحب اللعب وان ما تفعله كله يصب في مصلحة العمل وانها فقط تسليه حين يكون متعبا
ولكنها قد اخذت من تفكيره وصار يتعجب من نفسه حين يشتاقها اكثر من اشتياقه لصبا حبيبة العمر
كان يترقب طوال الوقت مساعدتها ، كان يطيل القعود في مكتبه كي فقط تأتي و تفعل مثلما فعلت المرة الماضية
ولكنها الظاهر كانت تنسى انها قد اخذت بلبه و انها نجحت فيما تفعل حتى تعلق بها هكذا
وفي ليلة من ليالي سهره التي تنتظرها ، دخلت برأسها من فتحة الباب وهي تبتسم له : هل لديك وقت لشرب بعض الشاي الدافيء
ترك ما في يده : نعم طبعا تفضلي ارجوك
دخلت وهي تحمل كوبيين ورقيين فيهما شيء من الشاي
قدمت احدهما له وهي تقول بسرور : تفضل ايها الطبيب العظيم
ابتسم بخجل : شكرا لك ولكن ما الذي ابقاك حتى الساعة
جلست تضع ساقا فوق ساق وهي تشفط قليلا من شايها وتنظر في عينيه بينما كان شعرها يغطي الجزء الذي تلتفت عليه منه : مناوبتي تنتهي بعد نصف ساعة ، الامن مستتب و الحمدلله لا يوجد اي صعوبات اليوم وليس هناك موتى . غمزت بعينها له بمزاح
اما هو كان يشرب وينسجم مع حكاياها كانت تسليه و تسعده ايضا و تزرع البسمة على شفتيه
في تلك اللحظة انقلب الكوب منها على صدرها فقامت وهي تتاوه : اه اه اه يا الهي قد احرقت نفسي
اخذت الدموع تنزل وهي تتألم وتحاول ابعاد القميص عن صدرها الذي احمر من حرارة الشاي وهو فز من مكانه مفجوعا يدور حول طاولته و يقترب منها بسرعة و هو ينظر الى مكان الحرق و الى دموعها والى معاناتها : لا لا لا تتحركي فقط دعيني امسح المشروب كي اعالج الحرق
هنا اضطرت .. كارهة ان تخلع معطفها ..ثم خلعت قميصها وبقيت بحمالة الصدر ذات اللون الزهري التي تلملم جنبي ثدييها و تبرزهما في منظر يغري اي رجل
تنفس بعمق وهو ينظر اليها ، كانت تتوجع وهو يحدق في صدرها ، كانت تبكي ، وهو يفكر في اشياء دغدغت رجولته ، احمر وجهه وارتبك وهو يحاول تهدأتها : عليك الهدوء يا جنين ، لا شيء سيء بعض الاحمرار فقط ، دعيني انظف المشروب اولا ، اقترب منها وهي تحاول ابعاد يده خوفا من لمسه للحرق الذي يجيش دموعها وهي تتلوى بدلع وتعض شفاهها
ان دخل عليهما اي احد تلك اللحظة سيظنون ان هذين الزوجين سيمارسان الفاحشة هنا في مكتب المستشفى
اقترب وهو يتماسك كيلا يرتكب خطأ ، كيف وهو الدكتور المحنك الذي يجري عمليات كبيرة و يخيط و يقطع ويوصل وهنا لمجرد حرق تافه يتعرق وحاله لا يعلم به الا الله !!
كان قلبه يدق وهو يلمس صدرها و يمسحه وهو يراه نافراهكذا ببياضه الناصع وبلمعانه ، اغمض عينيه ، تبا !
وضع كريم حرق و دهن المكان وهي تتابعه بعينيها وتركز على مكان الحرق وبعدما انتهى التفت عنها ممتعض من نفسه : الان ارتدي المعطف و عليكي العودة الى شقتك لاخذ قسط من الراحة
كان يرمي ببقايا الكريم في السلة وهو مقهور التفت حين سمع الباب يقفل وهي تخرج وحتى نسيت شكره وهو جلس متعبا يلهث من جريان قلبه ، وضع رأسه بين كفيه .. تبا ماذا حصل ياربي !!
سكينة التي تخرج كعادتها من بيت اهلها قبل المغرب
حيث كان السائق والذي يدعى ناصر اسود البشرة
في الحقيقة ناصر يخجل من بشرته ومن نفسه
اصلا كل من في ليبيا يخجلون من الوانهم ، السمراء تخجل من سمارها و الاسود يخجل من لونه فالكل يريد البياض والبياض فقط لا غير !
كان اهل ناصر ممن سموهم في يوم من الايام .. الخادم .. او الخدم الذين يعملون تحت عائلات امازيغية فهذه العادة تعود الى زمن سحيق من التاريخ ، حين كانوا العبيد حقا عبيدا ، كان الرجل يولد اسودا فيخدم مالكه ، نعم مالكه ولا يستطع الخروج عن طوعه ، فهؤلاء رغم انهم ليبون الاصل الا انهم يكرهون انفسهم لكثرة ما جرى لهم عبر التاريخ من رق و عبودية حتى من ابناء بلدهم ذاته
كان يقود السيارة وهو لا يعجبه البتة ما تفعله الانسة صاحبة الجلالة سكينة ، فهو قد شك في كثرة خروجها وذهابها للافراح خاصتا ، فعلم بالامر في يوم كان جالسا في السيارة ينتظرها و يقوم بالتصفح في هاتفه حتى وصله بلوتوث من مكان ما فتحه وهناك على خشبة مسرح العرس كانت تقف راقصة تلبس لباس الراقصات المصريات و تهز جسدها على الاغاني التي تتغير كل ساعة
كان يشك في امر هذا الجسد فهو مألوف لديه حتى قفزت لعقله تلك الخاطرة التي جعلته يرتعد رعبا : تبا .. سكينة !
نعم سكينة كانت تفعل ما تريد و تمارس مهاراتها في الرقص ، فلم يقتصر الامر على مجرد فيديوهات تافهة تنشرها بل تطور لان جعلت من نفسها راقصة في الافراح والمسرات !
كان ينظر لها مذعورا وبدأ يتعرق كادت عيناه تخرجان من شدة دهشته والدم يفور في عروقه : تبا هل يتصل الان باهلها و يأتون ويخرجونها جثة هامدة ، تبا ان علم المؤيد سيقتله هو اولا قبلها
اخذ يدق بيده بقوة على مقود السيارة وكاد الصبر ان يقتله وهو يعد الثواني ان تخرج
هناك في الداخل حيث الجميع كان يصور و يرسل تلك الصور و الفديوهات الى قنوات الاتصال
يتجمع الرجال و الشباب ليتفرجوا على الراقصة على شاشات هواتفهم و البنات في الداخل يشجعنها و يلقين عليها المال
هي لا تفعل ذلك لاجل المال
هي تفعله لأجل المتعة
ولأجل التحدي ، نعم التحدي ، تتحدى نفسها في الرقص اولا ، ثم تتحدى المجتمع برمته ان وقفت ورقصت كما تريد و تثبت نفسها !
عندما خرجت من الخلف وفي الحقيقة لم يعرف احد من هي هذه الراقصة بل كانت بعدما تنتهي تدخل لغرفة وتخرج من غرفة و تلبس و تغادر وكان شيئا لم يكن ، تركب السايرة راضية عن نفسها وتبتسم بسرور
كان ناصر يتميز غيضا و اسنانه البيضاء الناصعة تسحق بعضها خلف شفتيه لم يطق صبرا حين ارتفع صوته : صورك و فيديوهاتك في كل مكان يا آنسة
التفتت له وهي ترفع حاجبا : نعم ؟!!!!
: سيدتي قلت لك صورك في كل مكان
: صور ماذا لا افهم ما تخرف
: صور رقصك الم تكوني ترقصين في الداخل
اهتز جسدها و اهتز قلبها و فتحت عينيها عن وسعهما : وانت ما ادراك
نظر اليها من خلال المرآة وهو يقود : ولو يا آنسة سكينة اللبيب من الاشارة يفهم
طرقت باصابعها على فخذها مقهورة : وماذا تريد الان ايها العبد ابتزازي !
هو لم يبتزها ولن يفعل
ولكن الكلمة التي نطقت بها كانت سهما واخترق قلبه واوجعته فاخفض من صوته الذي بالكاد خرج من حزنه : حاشاك يا سيدتي ان ابتزك ، انا خفت عليك من رد فعل اهلك ان علم احد بهذا العمل !
قرر ان يقود والا يتدخل بها ان قررت الانتحار فهذا قرارها !
ولكنها ردت بتكبر : ان لم تخبرهم لن يعرفوا . اغلق الموضوع الان !
هز رأسه والعبرات تتكوم في حلقه
فعلى عدد السنين التي خدمها عندهم فهذه الفتاة بالذات لم تحترمه يوما بل تعامله كأنه قرد و يقود سيارة وهذا كل شيء !
اوصلها الى البيت وكانت هناك ناجية على عتبات الدرج تنتظرها وهي تمسك الهاتف بيدها : اين كنت يا مجنونة
خلعت الحجاب عنها وهي تتجه للاعلى بغير اكتراث : لما الخوف انا ذا لم اصب بأي حادث كنت في عرس و رجعت !
اكملت طريقها للاعلى فيما لحقت بها ناجية وهي تقول لها : تعالي تعالي انظري الى هذا الفيديو الذي انتشر !
اما عن راعيل التي تواصل الليل بالنهار جالسة في غرفة الفندق تابى الخروج منها
تفكر فقط عن الايام السابقة حين اجبرها ان تتصل بوالدها
: قلت لك اتصلي به الان و اخبريه انك تريدينه مع الصبي هنا
كان يقف فوق راسها يحرمها الراحة وهي يدقق في كل شيء تفعله او تقوله
هو يخونها ولا يثق بها ولا فيما ان كانت ستقنع والدها بالحضور مع تاج
انه يحرق دمها رويدا رويدا بنظراته الشريرة ووجهه القاتم و عينيه الداكينتين المتفجرتان غيظا
حين امسكت الهاتف وهو يقف متوترا : ان شممت رائحة غدر منك ثقي انك لن ترجعي لهم ابدا ، كلامك يكون واضحا وباللغة العربية اي كلمة عبرية سأقص لسانك بعدها قصا !
كان تحذيره واضحا تماما فلا تجد وسيلة للتملص : ابي كيف حالك
: بخير يا ابنتي قد اطلتي الغيبة و الصغير يسال عنك ، هل كل شيء على ما يرام
: نعم نعم يا ابي كل شيء بخير و باريس جميلة جدا
ابي
: نعم يا ابنتي
: ابي انا قد حجزت رحلة استجمام لك و لتاج في نهاية الاسبوع
: لماذا يا ابنتي
: قلت لك يا ابي رحلة استجمام
تبا تعرف ان والدها لا يصدق حرفا اغمضت عينيها في هم و هي تعيد الهاتف الى اذنها : ابي هنا الجو رائع و اريد ان احتفل معك وتاج بالسنة اليهودية الجديدة ، هل استجبت لطلبي هذه المرة !
: يا الهي يا راعيل منذ زمن لا افكر في السفر فانا تعودت على البقاء في المنزل الم يكن من الافضل ان تاخذي الصبي معك قبل ان تفكري ان تسافري لوحدك !
اغمضت عيناها ثانيتا ولكن هذه المرة من القرصة الشديدة التي وجهها لها الزين في عضدها ، التفتت عليه بعينين تغليان غضبا وتشتعلان بعدم الصبر و تهمس له : كف عن مضايقتي حتى لا افضح الامر كله
: هل تجرؤين على ذلك !
نظرا الى بعضهما في تهديد فيما عادت الى المكالمة تمثل الهدوء و الراحة و الضحك : ابي ارجوك لبي طلبي هذه المرة فلترح نفسك و تستمتع بالحياة فانت في حياتك لم تزر اوروبا وهذه فرصة سانحة كي تأتي ونقضي بعض الوقت هنا و نذهب الى جبال الالب الا تريد رؤيتها ورؤية الثلوج !
اخذت ترقص بخصرها جيئة وذهابا وهي تنتظر الرد الحاسم فكم من الصعب اقناع والدها بترك الارض الثانية التي تبنته و الحضور الى هنا ،حتى سنه لم يعد يسمح له بالتنقل بحرية و خصوصا مع طفل صغير
: حسنا يا صغيرتي سوف آت
خرجت منها اهة راحة و تنفست الصعداء وهي تضع يدا فوق صدرها : الى اللقاء يا ابي و قبل عني تاج !
تركت الخط من يدها وهي تلتف له : هل ارتحت الان
نظر مباشرة الى عينيها : ممتاز قد فعلت ما اريد تماما
تبرمت في وقفتها وهي تتجه الى السرير و تجلس عليه وتضع ساقا تحت الاخرى : الن تقل لي كيف عثرت علينا !!
يقهرها انه استطاع ان يجدهم وهي في بلد اقل ما يقال عنه محاصر من كل مكان ويراقبه كل العالم !
كان يضع كفه على لحيته وهو يستند بمرفق على الطاولة و اليد الاخرى يحمل بها كوبا من النبيذ ، تناول قليلا بين شفتيه ولم يلتفت لها وهو يعترف : صدفة ، صدفة بحتة
القى نظرة جانبية عليها ، هي التي ترتدي الان قفطانا طويلا واسعا يغطيها من الرقبة الى القدم مخالفا تماما لمظهرها المرة الفائتة قبل النوم وثيابها العارية ، هو لا يعتقد ان امرأة مثلها قد تتنازل بين يوم وليلة عن مبادئها وتبدي له محاسنها وهي لا تريده ولا توافق على سلوكه معها حتى وان اخبرها انها لا تزال ملكه !
انزل الكأس وهو يبتلع ببطيء المشروب و عيناه تعودا الى فترة مضت
كنت في روسيا لبعض الاعمال ، كانت تنقصنا بعض المعدات فسافرت لملاقاة المالك و ابرام العقود ، في يوم دخل رجل اسمه ادمير ، كان دمث الخلق و يتحدث العربية قليلا حين عرف انني عربي قال : اه يسرني ان التقي رجل عربي ، من اين انت ، فرددت عليه ، فقال اه هناك العديد من الليبيين يعيشون في الاراضي المحتلة
فتحت عيني وقلت له اتعرفهم فرد وهو يشرب كأسه : لا ولكن هناك من يعملون في مطار بن غوريون تعرفت على احدهم !
هناك خطر ببالي ، نعم قد خطرت ببالي ، فقلت لابد او من الممكن ان يعرف شيء عنك
فسألته : هل تعرف شيئا عن اليهود اليمن !
فهز كتفه قائلا : لا ولكن استطيع ان اسأل !
كان ادمير رجل متعاون جدا فهو لا يحب ان يسأل لما ذاك و ذاك بل يستمع و ينفذ بلا سؤال
ادمير يملك شركة للسفن في حيفا و كان دائم السفر بين الاراضي المحتلة وبين روسيا وبعض الدول الاوروبية منها سياحة ومنها عمل
اعطيته اسمك فقط تخيلي انني لا اعرف شيئا عنك !!
ادمير له اصدقاء عرب من كل مدينة فعمل على تجنيد البعض منهم الذين خدموه واخذوا في البحث عنك ,, راعيل اليمنية !!
لا يوجد اي معلومات اخرى هذه فقط !
التفت لها وهو يفرغ كل الكأس في جوفه و يضرب به على الطاولة حتى اصدرت صوتا يعبر فيه عن غيظه منها : تطلب الامر سنوات حتى وجد احدهم بداية الخيط التي قادتني لك .. فلم تكوني سهلة ابدا .. لم تكوني !!!
وهي بقدر ما كانت مرتاحة في تعامله معها بقدر ما تضايقت منه ، فهو يعاملها انها غير مرئية يرد على قدر السؤال لم يعد شغوفا بها كما السابق حين التقاها ، يعاملها بقسوة وببرود وحتى وجودهما لوحدهما لم يشجعه على التحرش بها ، كيف ذلك لا تفهم !
اما هو فنظر الى هاتفه وهو يشعل سيجارا اخذ ينفث دخانها فوق رأسه فرد عليه الطرف الاخر : اهلا اهلا ، اين انت يا رجل قد اختفيت !
فرد السيجارة ورد بعدها : انا في باريس
استغرب الاخر : اف .. في باريس ، لما ! الم ترجع الى البيت مع نجلا !
ابتسم جانبيا : كلا قد اخذتها الى القصر!
رد الاخر في وجوم : ماذا ؟! هل جننت ؟!!
اطفأ سيجاره في قهر هذه المرة : اتركها علها تتربى !
فيما استطرد : وانت ماذا تفعل !
كان ينظر لمن تجلس خلفه في السيارة : أُعيد غالية الى البيت !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق