الجزء الثالث والعشرين

 

 


 

 

الجزء الثالث و العشرين

 

ناوليني قلما لأكتب لكِ شعرا ، لأسقي ثغرك وردا ، اعطني قلما كي اصنع منه رصاصا يهدم قلبا ، اعطني قلما لأفتح به دُولا واحاور منه امرأة !

قلتُ في نفسي أن الكل سيتقبلها كما هي ، كما احضرتها ، الكل سيفرح لفرحي و سيدفعونني لأكمل مشواري الطويل معها

ولكن ما رأيته على الوجوه لم يكن أمراً يجلب لقلبي الا التعاسة

امي تجلس هناك في الزاوية تلوي وجهها بل تحدجني بنظرات قهر و كثيرا من نظرات الأسى !

أبي يحاول أن يجمع في عقله كل ما فككته بيداي تلك السنون ، يجمع بي و يطرح بي و يقسمني بلا رحمة !

صبا تجلس محرجة تارة تنظر للفتاة الغالية و تارة تنظر للسقف فلا هي تحاول ان تضع عينها في عيني ولا انا اردت حقا ان ارى ما تحمله لي في طياتها

اما هي ، فقد اعطتني قلما صنعت منه رصاصا اطلقه عليها ، اعطتني حجة ان اسد الثغرة التي بيني و بينها ، كتلك المرة تماما حين احضرتها وكانت مرتبكة ، انظر لها الى طولها و حاجبيها و شعرها المتهدل ، هل لازالت تخفي تلك الندبة عني !

غالية سقطت في غيابات النسيان وانا بقلمي المسنون بشوقي من سيحرضها على الرجوع لابد ان ترجع من اجلي !

لم ارد ان اسمع لم ارد ان افكر لم ارد ان اطأ بقدمي ارض الواقع : يحيا الفتاة اسمها ديالا وليس غالية

كنت انزل رأسي لأحدق في ارضي : لا بل هي نسيت اسمها

: يحي الفتاة تصغر غالية على الاقل بعشر سنوات !! الا تراها !

يهز رأسه رفضا لا لن يؤثروا عليه هكذا بهذه الصورة البشعة ، يريدون ان يمحونها من ذاكرته من عروق دمه يمحونها بذكريات متطفلة ، لا لن يسمح : اراها هي تقف هنا امامي

تنهدت امه بخفوت و هي تغمض عيناها تشعر بالانفطار ، كيف لابنها ان يفعل هذا بنفسه كيف يصل الى هذه المرحلة الخطيرة من العشق !

لا تريد ان تضغط عليه لا تريد ان تصدمه لا تريد ان تفصح له عما فعل بها ، هو لا يرى ذلك اليوم إلا في أحلامه

قام من جلسته و اتجه لها هي من كانت تجلس منفردة وحيدة في مواجهة العائلة ، في حياتها لم تتصور ان تحاكم وهي من تدرس القانون ، انهم يقاضونها على امر لا تدري عنه ، يشبهها عمها يحي على امرأة لا تدري صلته بها ، هذا أمر آخر خفق له قلبها بوهن ، بالخذلان ، عمها يحي يشبّه عليها .. فقط !

حين وقف امامها وهي راجفة الشفتين تنظر اليه في عتب ، كانت عيناهما تتحاوران : اجلبتني هنا لأُهان

: حاشاكِ يا عمري ، انتِ هنا لأنكِ سيدتي

: أتحب امرأة تشبهني

: لا ، بل لا تشبهين إلا نفسك

: اخطأتَ في حقي

: بل ارجعه لك على الملأ

قال بوجع : اتعرفينني ؟!!

فردت ببحة خالصة تكممها عبرة : اعرفك كيف لا اعرفك

التفت لهم قائلا : قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان !

اعطاهم ظهره و خرج ، خرج يجرجر خطواته ، كم ثقيل جسده قد اصبح ، كأن سلاسل عملاقة مربوطة فيه يسحبها مجبر تحت التعذيب ، ألم يعذبونه وهم يجتمعون عليه ، أيقولون له أنه امر مرفوض ان تعيش معه وبين يديه ، للمرة الالف لا يفهمونه ، للمرة الالف يقفون في طريقه الذي امتلأ بالعثرات ، وللمرة المليون يقولون له انك مريض !

وصل الى غرفته ووصلت امه بعده تغلق الباب عليهما : يحي

كان يتجه الى النور ، هناك يريد من تلك الاشعة ان تبتلعه ، ان يصبح جزءا منها ، أن يطير حرا ، ان يغفو دهرا ، تحشرج صوته : أمي يكفي ، ألن تكفو عن تقطيعي منذ زمن !

اقتربت حتى وضعت يدها الحنونة على كتفه و هي تتحدث بأسى : يحي ابحث عن اهلها ، من هم اهل غالية ، من هم اهل ديالا

التفت لها في غضب : اسمها غالية غالية ليس ديالا ، امي لا تدفعيني للجنون امسك برأسه بين كفيه و اغمض عينيه بقوة : لا تضغطيني فسأنفجر ولن يكون انفجاري محمودا

تريد ان تكون قاسية معه ، تكون حاسمة ، ان تجعله يقف و يرى الحقيقة فتكلمت بصوت ثابت عالي النبرة : لم اقل لك ان تطردها ، انا اقول ان تحقق في الشبه بينهما ، ديالا تصغر غالية بكثير عندما رأيناها ، لا تشك انت ربما بقرابتهما !

كل شيء فيه قد هوى ، جسده ضعف ، وعقله تتلاشى خلاياه فلا يعد يفكر بمنطق حتى احمرت عيناه وتشققت مقلتاه وانزل رأسه في أسى : يكفي امي يكفي ، انا اعرفها وهي تعرفني ولا احتاج للمزيد !

هزته وهي متشبثة بثيابه : يا حبيبي يا يحي حكم عقلك ، ان كنت ستعاملها كديالا افضل لها ولنا من ان تعاملها كإنسانة كلنا شهدنا على موتها فهذا بذاته سيجعلها تتلافاك و تهرب منك

كتم غيظه و اغلق فمه بقوة رغم ان حلقه يصرخ ينشق عنه و يعلن ثورته

هو لن يقبل هذا الواقع لن يقبل به طالما هي هنا و معه و لن يجعل اي احد يتدخل في هذا الامر والا اخذها ورحل ، نعم هكذا يأخذها ويرحل و يترك الدنيا خلفه تعاتبه او حتى تحرقه لم يعد يهم !

: فكر يا حبيبي فكر قبل ان تتخذ خطوات قد تندم عليها لاحقا

اما هي فجلست و رفعت اظافر يدها الى أسنانها تكظم منها ما تكظم ، هكذا اذن يا يحي ، هكذا اذن ،

 لم تذرف الدمع فهي قد تعودت على كبح جماح حزنها ، الحزن البريء الذي البسها ثيابه ، تبلع غصاتها بتؤدة وكأنها تمتع حلقها بانتكاستها ، منذ متى تعرف هي العم يحي ،بل  يحي ،، يحي ،، منذ دخل ذاك اليوم مع غاليته ، كيف لا تعرفه وهو كان يحملها على ظهره ، كيف وهو من كان يشتري لها ما تحب هو يعرفها كما يعرف روحها ، ما تحب وما تكره وما يضحكها وما يرعبها ، هي تربية يداه !

اغمضت عيناها و تلفتت برأسها تخرج الى الشرفة فيداعب الهواء وجهها فترفع رأسها و تفتح ذراعيها للريح فيتطاير شعرها و تتحرك ثيابها و تداعب الدموع اهدابها هناك حيث تشعر انها خفيفة كالريشة وانها تستطيع ان تركب الريح و تطير  

هناك حيث كان يقف في شرفته واضعا يدا تحت ذقنه و يدا تحت مرفقه ، تلفته

يظل يحدق فيها ، تفاصيلها ، شعرها الطويل الذي تدفعه الريح الى ما خلف رأسها ،كل خصلة فيها قصة كأنه يريد الطيران بها من قفصها الذي بين يديه، شعر اسود كحصان عربي يصهل فخرا

ان يقف هناك ليشم عطر غلائلها ان ينتظر ان تمرغ شفتها الملساء بأحمر الشفاه ان يقف و يتوقف الوقت و الساعات ، انتِ يا زائرة ترقصين على وحشة نهاري ، تفتحين كل المغاليق في عيني و تخرجينني من زنزانتي الفردية !

 عيناها المغمضتان بشدة وهو يرى اهدابها الكثيفة الملتوية و شكل وجهها الجانبي شديد الحسن و تدويرة شفتيها  ، انفاسها التي تتدحرج على صدرها و يداها المفرودتان لتلتقما روحه في اشعة الشمس ،  عطرها كان يتطاير كحبات المطر الدافيء  فيداعب انفاسه  ، هي هنا ، هي هناك ، هي في كل مكان !

 

رسائل الى يحي

عزيزي يحي ، نعم عزيز ، فعندما نحب شخصا لا نملك له من المحبة سوى المعزة !

عزيزي يحي

لم احتمل ان تهان وسط اهلك ، لم احتمل ان تكون المقاتل الوحيد الواقف بسيفه ضد جيوش الخذلان والمؤامرة ، لم ترد لنا الدنيا ان نكون سويا ، نعم هي هكذا دائما ما تفرض علينا شروطها و اوهامها ، ان كنت سعيدا في الحب فأنت لن تتزوج من تحبها ، وان كنت تعشق فستدفع ثمن عشقك ، كل له ثمنه و الدنيا تمد يدها و نحن ندفعه رغما عن انوفنا !

خرجت و لم الملم نفسي معك بعد ، قد انفصل عنك جزءك الذي احببت

خرجت و اتجهت الى مدينة جدي ، الى حيث عشت اول حياتي ، هناك بعيدا بين الجبال الخضر و بين الاشجار الوارفة و قفت احمل في يدي حقيبة المآسي ، كان البيت مغلق منذ سنين ، يبدو باهتا و متربا

اعرف مكان المفتاح الخارجي فعبثت بيدي تحت شجرة السرو العملاقة حتى اخرجت العلبة التي نخبء فيها المفتاح ، فتحتها و اخرجته ثم وضعته في قفله وفتحت الباب على ماضيي ، فتحته على مصراعيه ، كل ذكرى عادت لي حية ، حتى جدي اسمع صوته يصرخ يطلب مني الاسراع في تقديم الغداء ، البيت يحتاج لكثير من النظافة الكثير من الهواء و كثير من الروح !

لم تجلبني قدماي منذ زمن الى هنا ، ألأنني تعلقت بالمدينة ، المدينة التي تشفعت مني و غربلتني فلم يبقى مني الا حقيبة !

البيت خاوي قد يكون الجان قد سكنه منذ زمن ، لم تكن البيوت المجاورة قريبة و بعض الاضاءة تحتاج الى الاصلاح بل بعض الاثاث البالي ايضا

في الحقيقة يا يحي انا لم اهتم لكل ذلك ، انا تعودت ، حتى ان انام على الارض لم تكن الفكرة سيئة فما يهمني هو انني اقف على ارض ملكي و بيت له سقف ، استقلت من عملي بعد ان ارسلت لهم رسالة انني لن اعود ولكنهم لم يقبلوها فقد طلبوا مني فقط ان آخذ وقتي و ارتاح ان رغبت ثم لي عودة ، كيف ارجع ، قل كيف ارجع ، ولمن !

تركتك وانا غير نادمة ، لا.. صدقا لم اندم ، هكذا يتحرر كلانا ، فلا اهلك سيعيرونني ولا زكريا يفقد عقله بسببي ، انا الان مرتاحة الضمير وانا ارفع الاشياء و انظف و الملم و المع و اكنس و اشطف و اغسل و اروي ، كانت هذه حياتي قبلا و خرجت منها تعيسة واعود اليها الان راضية !

ستكون حياتي بسيطة سأشرب اللبن و اكل الخبز صباحا ، و سأطبخ الارز مع لحم الغنم مساءا و سأجلس على مرجوحتي ليلا لأرى القمر و اسمع الاشجار كيف تروي لي حكايتها وحكاية جدي ، انا قررت ان استمتع هنا حتى يأتي علي يوم أخر !

 

 

ستحاول ان تجبره جبرا

ان تجعله حرا

ان تمنحه حلما وان تمد له كفا

حين دخلتُ عليه وانا اتقدم واتاخر ، يدفعني شوقي بيديه ، يجرجرني حبي جرا و يرميني امامه راكعة

اقف امامه هو النائم ، اظل احدق بعيني الى كله ، وجهه ، شعره ، لحيته ، صدره ، خاصرته ثم لا شيء لا شيء

أيظن انني اشمت به حين فقد ساقيه

ايظن انني سعيدة ان اراه يدمر نفسي ونفسه امام ناظري واسكت

 ساقه تلك التي قطعوها كانت جزء من قلبي ، من بعدها انقطع النفس عن روحي ، لم احتمل ، ان اراه لا يقف لا يمشي لا يجري ولا يضاجعني بتلك الساقين ، قُطعت ساقيه و قُطعت حياتينا معها !

جلستُ على حافة سريره اراقب وجهه الذي ينام بكل براءة ، يا الهي كيف يبدو الوجه بريئا حين تغمض العينان ، ايكون كل الشر في تلك النظرات التي نحدج بها بعضنا البعض ، يبدو آمنا ، يبدو مطمئنا ، ينام مليء جفنيه وانا لم اقدر !

اخذت يدي تسرح ببطء على شعره الكثيف ، ادخل اصابعي فيه فتختفي كأنها غارقة في حقلٍ من الذرة !

كان شديد النعومة لونه بين الذهبي و البني متموجة خصلاته ، اصبعي التي مست حاجبيه الغليظين المتعاقدين حتى في نومه و اهدابه التي ترقد على صفحة خده و الشعيرات التي تشوك لي يدي و هناك شفتيه الغليظتين و انفه المستقيم ، يا الهي يا هارون يا الهي !

كان يستشعر رفرفة فراشات تلامس مقلته ، أنفاس دافئة تعانق صفحة وجهه و عطر سكنه منذ ابد الدهر

مَن غيرها تلك التي هواها من اول مرة رآها ، تلك التي خانها مع كل النساء ، طفلة هي طفلة ولا زالت تحب اللعب على وجهه !

فتح عينيه لتلاقي وجهها الساحر ، عينيها وما فيها من عطف !

نطقت بصوت هامس : لما لا نحاول ، لما لا تمشي مجددا

اندفعت الدموع من عينيها في احباط و خيبة : انت تستطيع ان تمشي مجددا ، لا تتركنا انا و انت نهبة للاكتئاب ، دعنا نحاول ،دعنا نسافر الى المانيا وهناك ستحصل على ساقين ، ستمشي و تقف و تحارب ، ضغطت على صدره بيدها : نعم انت محارب ولكل محارب جولة اخرى ، فلما لا نفعلها ، لما لا تبدا حياتنا من جديد !

هارون لم يتبقى لديك سواي ، بعد أن هجرنا الكل ، لدينا ما يكفي من المال حتى نلملم بعضنا ، لا يجب ان تستسلم للخيبات في هذا السن ، لا زلنا شبابا ، اسمع مني و لنخرج من هنا و نذهب الى حيث تبني جسدك و تقاتل من اجل حياتك ، هزته : الا ترى ان حياتك تستحق ان تحارب من اجلها !

كان فقط ينقل بصره من عين الى اخرى فيها ، يسمع بصمت الى ما تنطق شفتيها ، يحس بقهر بالأسى و الحزن فيها ، الى اي درجة اوصلها بعناده ، الى اي درجة اوصلها باستحقاره ، هي حتى الان متمسكة به ولا زالت تحاول معه ، غيرها كانت قد هربت منه منذ زمن او كانت قد خانته و منحت جسدها لرجل آخر يلبي حاجاتها ، كيف يرفس هذه النعمة كيف !

كان الظلام يحوطهما و نور ضئيل يتسلل من النافذة  يقع على عينيهما ، ينظرا الى بعضهما البعض يتحاوران بروحيهما اللتان تعانقتا منذ زمن مضى ولا زالتا متطايرتان تحاولان بقوة الرجوع و الامساك بطرف امل ليعودا

نطق في ضعف : هل تشعرين انني ظلمتك

كانت تربت بلطف على لحيته : قليلا !

حدق فيها البصر : من حسن حظك ان مزاجي لطيف هذه الايام

عاكسته : وهل ستذلني بهذا !

هز رأسه وهو يضع يدا تحت رأسه و يدا فوق صدره المتمدد : لا ، مالذي خطر ببالك للسفر !

قالت بجدية : علينا ان نحل الامور بيننا ، هارون الم تمل من هذه الحياة وهذه الرتابة ، انت لا تفعل شيئا سوى الجلوس و اجترار الماضي البائس ، هناك حياة وهناك مستقبل، لم ينتهي كل شيء بعد ، لا زال امامنا الكثير ، علينا ان نحاول الانجاب

ندت عن شفتيه ابتسامة جانبية : يا الهي يا مجدلية كم احلامك كبيرة و متأملة ، ساق و طفل مرة واحدة !

اشارت له بحاجبيها : على الاقل دعنا اولا نصلح العلاقة بيننا !

اغمض عينيه و فتحهما مجددا متبرما : ايقظتني من نومي و تخرفين علي بأشياء مستحيلة و تريدين علاقة ، قوليها من البداية !

قالت في تصميم : ان كنت اطلب علاقة فهذا من حقي وليس كرما منك !

نفخ اوداجه في صبر وهو لا زال يهمس و هي كذلك ، يتهامسان كأنهما في اول حبهما ، تشاكسه تعاكسه تدفعه : ها ماذا قلت !

كانت قد وصلت بأظافرها المطلية الى شفتيه تدغدغ حواسه فيبتلع ريقه : تعالي اصعدي

فتحت عينيها على وسعهما : مجنون

: أليس هذا ما تريدينه ، الا تريدين طفلا !

غامت عيناها : ليس فقط من اجل الطفل من اجلنا كلانا انا وانت !

: مجدلية لا تكثري الجدال والا غيرت رأيي احمدي الله انني قد قبلت جاوبها محذرا

التوى عنقها بعيدا عنه في صِغر و عيناها توشك ان تذرف الدموع ، لما يهينها ، لما يعتبرها ثقلا حتى في ابسط حقوقها ؟

لم تفطن الا وقد جذبها الى صدره فتتقابل عيناهما و تتلاقى شفاههما وهو يهمس لها : تدرين ، نعم قد كنت جلفا معك انا اعتذر وقام بلثم شفتها بخفة !

فتحت فاها فاغرا ، كانت مصدومة و الصدمة تخطت عقلها لا تصدق حقا ، هارون يعتذر ، انه يعتذر انها مندهشة قد اذهلها حقا يا الله كم انتظرت طويلا تلك الكلمة كم انتظرت تلك النظرة كم انتظرت ان تجذبها ذراعيه لا ان تدفعانها عنه في كره

كان ينظر الى كل انفعالاتها ولكنه قطع عليها كل ذلك : هل ستصعدين او تخرجي و تغلقي الباب خلفك !

كانت عيناه متلاعبتان تتحديانها فقالت وهي تخلع ملابسها : لا بل سأغتنم الفرصة !

 

التجربة خير برهان للحب ، نتقدم باندفاع و نحرق ساقا و نقطع عرقا و نشم دما ، التجربة خير دليل للحب ، فلا نحن نفقه شيئا و لا ندري في ارض سقطنا هكذا من السماء التي حررتنا نزلنا الى الارض كالملائكة ، نحدج بعضنا البعض و نقاتل بعضنا البعض و نحب بعضنا البعض فالتجربة خير برهان للحب !

يتفتق قلبها و يتزحزح من مكانه

فكل عضو فيها استلم محل الاخر

كل شيء اصبح فوضى في داخلها ، داخلها الملموس

تتقدم لتهدم روحا ، تهدم مدنا ، تتسلق ثورة !

:أبي انا اقول لك اننا سنرحل غدا مساءا

هو لا يفهم لا يستوعب بعد ما تفوهت به حبيبة قلبه ابنته الوحيدة فاغرورقت عيناه وهو لا يقدر ان ينطق : انتم من !

يا الله يا الله صرخة هزت روحها كيف ترى والدها يبكي هكذا امامها ، كيف تعلمت القسوة ، لما تخضع !

تدحرجت الدموع على تجاعيده وشقتها كما يشق الماء الوادي كل دحرجة مأساة و عمر ، كل دمعة موت كل حشرجة روح تصعد للسماء

مفجوعا : أتتركينني يا راعيل !

نزلت على يده تقلب كفه و تقبله ولم تشبع : يا روحي يا ابي يا عمري يا ابي انا مضطرة اقسم بربي مضطرة انا لا ارد تركك انا روحي معلقة بروحك

يشد رأسها الى حضنه وهو يطلق عبراته و تتدافع دموعه و يجيش صدره و يخرج صوته من بين انقاض الموت : تقتلين روحي يا ابنتي ليس مرة اخرى يا حبيبتي ليس مرة اخرى يا قلبي

اخذ الاثنان باحتضان بعضهما البعض وهما يفرغان مافي جعبتهما من حب ، لا يتخيل ابدا ان تتركه مجددا ، ان يعود للحياة وحيدا ، الا يتصبح بوجهها الذي يشبه القمر ، لا يسمع صوتها الحنون ، لا تناديه ابي ، لا يتخيل ان يعيش في ارض وهي في ارض اخرى ، ما ضمانه انها ستعيش معززة مكرمة ، ما ضمانه انه لن يغدر بها ، ما ضمانه انها لن تهان !

: هذا خيارك يا ابنتي و هذه حياتك ، لا زلتي صغيرة و تعرفين كيف تدبرين امرك ، ولكنك تعرفين ايضا ان بيتي هناك ، موجود ، في اي وقت تعلمين انك لن ترتاحي تعالي ولا تهتمي لأحد !

اما هو فقد كان جالسا يرتب ملف الاوراق امامه

جوازات السفر الاسرائيلية التي ستتمزق بين الحدود ، اوراقه هو الرسمية و تذاكر السفر

تذاكر سفر العودة لوالدها و معها رزمة من المال !

اخذ يضع كل شيء في ظرف بني و يغلقه ثم يرفع يده لينظر الى ساعته ، الوقت اقترب على المغيب ، اليوم لم يلتق معهم الا ليدخل الحمام فقط !

الطفل غير ثيابه اخيرا هذا ما فطن اليه و لكنه يريد اخذه الى الحلاق ليحلق له تلك السوالف المقيتة ، شعور الابوة داخله كان متضاربا ، يريد ولا يريد ، لا يفطن لنفسه انه يحدج الطفل بنظرات شريرة كريهة ، لم يتعود بعد على واقع انه ابنه و ان عليه ان يجعله يطمئن له و يحبه و يتقرب منه !

التقط نفسا وكأنه يجذب به كل طاقة الارض الى رئتيه ، يرفع يده الى شعره يسرحه للخلف بفتور لا يدري حقا ما يفعل الى حين ان دخلت عليه

في ذلك المنظر المثير للشفقة

عيناها متورمتان من البكاء و انفها شديد الاحمرار و شفتيها قانيتان و خديها مبللان و شعرها متعرقا

حتى اللحظة لا يعلم مدى الصراع الذي في داخلها

كيف تقاوم ، كيف تدفع روحها دفعا كي تفعل كل شيء يريده

وهو لا يلق بالا لكل التضحيات التي تقوم بها من اجلهم

نعم تضحي

الم تضحي حالا بوالدها و حياته وصحته

الم تضحي بكل كيانها

الم تضحي بابنها

هو لا ينظر اليها ولا يقدر هذه التضحيات كلها

هو فقط يفكر في نفسه ،ة في صورته

في نظرة الناس له ، في مشاعرهم تجاهه ، في مشاعره هو تجاهها و تجاه تاج ، لا ينتبه اليها ولا الى معاناتها ولا الى الحياة التي ستتغير بين عشية وضحاها

قالت من بين شهقاتها : قد قلت لأبي انني راحلة

اخذت تجهش بالبكاء المثير للشفقة ، قلبها يخرج من بين اضلعها ، هي تفارق والدها نعم تفارقه والله وحده اعلم متى ستراه ان كانت اصلا ستراه مع هذا الوحش الذي يسبيها !

فتحت عيناها : انت جلمود انسان بلا مشاعر انت انت انا لم اعد استطع وصفك انت اسوأ شيء حصل في حياتي

كانت توجه اتهاماتها الجاهزة له ، كل شيء جرى بسببه : هل سأرى والدي مرة اخرى في حياتي !

كان السؤال يخترق جمجمته ، هو حقا لا يشعر بها ولا يشعر بالشفقة عليها ، هي يهودية وتبكي ماذا تريد منه ، ان يبكي معها او ان يتلقفها بين احضانه : ارجوكِ لا تبكي عند رأسي ففيه ما يكفيه

صرخت به بعينان مفجوعتان : انت جلمود حقير

القى برأسه الى الوراء في ملل : راعيل اتقي شري و اخرجي والا سأضربك على مؤخرتك !

تلك اللحظة ابتلعت كل بكاءها في حلقها و نظرت له بعينان مفجوعتان : ماذا !

كرر على مسامعها بلا اكتراث : كما سمعتني لا تجربيني فلست ممن يلعب في هذه الامور انا جدي تماما  !

صمتت و استدارت بعينيها في كل الاركان ، كيف اطفأ ثورتها بهذه السخافة !

حتى كادت ان تضحك ، تبا له اهو جاد ؟!!

وضعت كفها فوق صدرها تستسمحه : سامحني سيد زين سامحني قد اخطأت في حقك وعكرت مزاجك و اطلب سماحك !

في تلك اللحظة وهو يراها هكذا هازئة اشار لها برأسه .. تعالي ..

لم تفهم حين كرر بصوته الغليظ المخيف و عينيه الضيقتين : قلت تعالي !

تريد ان تعرف ماذا يريد منها ، ان تجرب الاقتراب في هذه الحالة و ترى ماهية هذا التهديد ، هزت كتفيها بلا اكتراث : سآتي ، هل تعتقد انك تخيفني ، لا تنسى ولي امري على بعد خطوات منا فان تخطيت حدودك سيتدخل

اخفض رأسه يضحك شاخرا وصدره يكتم قهقة عالية ، في الحقيقة يعلم انها تكذب على نفسها ، هل لوالدها بذلك الجسد الضئيل ان يقدر ان يقف امامه ، فهو ان نفخ في وجهه سيطير !

تحدته وهو تحداها تقدمت شامخة الرأس ترفع ذقنها و ترفع حاجبا و اثار الدموع و البلل لا زال على خدها ظاهرا

وقفت امامه و في تلك اللحظة حقا قد امسك بيدها بقوة دافعا لها الى صدره و مددها على بطنها فوق فخذيه و صار يضرب مؤخرتها وهي تكظم غيظها بل تتألم : اتركني ايها الهمجي اتظن اننا صغارا لتفعل بي ذلك

لف وجهها اليه وهو يقترب منها ويلوي ذراعها : عندما تتحديني فتوقعي مني هذا العقاب !

بعدما انسدل شعرها كله الى الامام فصارت لا ترى شيئا من ملامحه ولا ترى جدية كلماته قالت ثائرة : ماهذه السخافة تعاقبني على ماذا على بكائي

كان لا زال يصفع يرفع كفه ثم يخفضه عليها حتى شعرت بالاحمرار والحرارة والصوت يتردد في الغرفة وهو يصفد كفيها في كف واحد : بل على مقاطعتك لافكاري

قلبت شفتيها في حنق تكاد تولول : زين هذا ليس فعلا لائقا

فتمتم لها : قليلا من الصبر يا جاهلة !

صعد الخجل الى وجهها :اتركني هيا اتركني صارت تحرك نفسها بثورة جامحة تريد الوقوف وهي تمسك بيدها في بنطاله و تحاول دفع نفسها الى الوراء : قلت لك دعني والا صرخت و فضحتك عند ابي !

يشعر انه يتسلى بها : اصرخي حتى يدخل و يراك على هذا الشكل ، خفض صوته عند اذنها : يا ترى ماذا كان سيخطر على باله ! هممم

رفست بقدمها و حركت شعرها حولها : كم انت نذل

تركها ولكن اجلسها على فخذه يتحكم في حركتها و يثبتها بين ذراعيه : يا الهي يا لك من طفلة صغيرة !

تضايقت منه كثيرا ، ماهذا الذي يفعله : اتركني ماذا تعتقد انك فاعل الا تحتقرني لكوني يهودية وقلت بلسانك انك لن تلمسني لأنني كذلك !

نفخ في اذنها من خلفها : ومن قال انني المسك ، هل تتخيلين ام تتمنين !

انتفخت اوداجها من الصدمة و احمرار الخجل يداهم خديها وهي تلتفت له : يا الهي كيف تحب ان تحور الامور لصالحك ، حررني

اطلق سراحها و قامت من مكانها وهي تدعك رسغيها من شدة قبضته : ستدفع ثمن فعلتك هذه !

رفع لها حاجبا متسليا كمن يقول .. حقا ..

همهمت بكلام غير مفهوم وهي تخرج و تترك له الغرفة كما جاءت لها

وهو صار يشم نفسه و يتتبع عبق رائحة المسك التي عادتا ما تستخدمه على جيدها عض على شفتيه و رفع كفه يسحب شعره الى الوراء ثم انتقل ببصره ثانيتا الى الطاولة امامه يحدجها بنظراته !

 

 

 

صار لا يعيش الا على عسلها ، يتدفق دمها عبر عروقه ، منتشيا أصبح ، لا يذكر فقد افقدته الاحساس بالكون حوله ، لا يشعر بالساعات ، بالنور ولا بالظلام ، قد كان لا يأكل الا نهديها ولا يشرب الا من شفتيها

هو الان فقط يشعر كأنه اول مرة يتزوج في حياته ، لم تمر عليه النساء ولا واحدة ولا حتى هي !!

كان شيئا مختلفا، لذيذا ، شهيا ، لا يُمل

شيء اشبه باللعبة

: اعتقد والله اعلم اننا يجب ان نأكل !

هكذا قالت برقة و هي ترفع رأسه في وجهه بتنك العينان التائهتان

شعرها حقا حقا كان يغطي وجهه وهي يحملها فوقه : مستعجلة

هزت رأسها نفيا حتى اهتز شعرها جيئة وذهابا معها وهي تكشف عن صف اسنانها البيضاء في ابتسامة : كلا ولكن بدأت اجوع

نهض من مكانه حتى اصبحت تجلس مقابلة له على حجره يلتقم ثغرها و يهمهم : سأحررك فقط بعد ثوان !

اخذها في حضنه يضمها الى صدره وهو يتنهد بأنفاس حارقة على عنقها : تعلمين انك ممتعة اليس كذلك !

جاءتها رغبة في قضم اذنه فاقتربت حقا و عضتها له في شغب : بل انت من كنت رجلا !

ولكنها في الحقيقة لا زالت تخجل و جدا ، لا زال الاحمرار يكسوها و الحرارة تعلوها ولكن هناك ثمن ، ثمن تحاول ان تدفعه له على مهل ، شيء كالدين تماما !

رفع رأسه وهو يخلصها من بين ذراعيه : حسنا الان بإمكانك الاستحمام وانا سأتصل بالمطعم ، ماذا ترغبين !

في الحقيقة كانت فقط عيناه من ترغبا ، ترغبا قضمها واكلها و دغدتها ، هل من الممكن ان تراه يوما فهمس في فمها : هل جربتي العملية على عيناك !

ردت ببساطة : في الحقيقة لا لم اجرب ولم احاول المسئلة صارت تعود !

فقال مقترحا : ما رأيك ان نذهب الى المانيا لاجراء فحوصات و نرى اذا كان هناك فرصة ممكنة لأي شيء قد يمنحنا املا !

قالت في احباط : آيدين ، هل تتضايق من حالتي !

رفع يده بسرعة الى وجهها يحتضنه بحب بين كفيه : كلا كلا لم اقصد ، انا اريدك فقط ان تريني ان تعرفيني !

تنهدت في وجهه فالتقم انفاسها بين رئتيه ووضع كفيها على وجهه : الان تمررين كفيك و تقولين لي كيف هي صورتي في رأسك !

ابتلعت ريقها قبل ان تقول : اعرف انك طويل فانفاسك دائما تتدافع من علو ، اعرف انك ملتح و شعرك غزير و حاجبيك غليظين ، مررت اصابعها برقة فوق شفتيه .. وشفتيك ممتلئة شهية ، ابتلع ريقه هو الآخر .. عيناك بحر قاتم لا يهم ما لونها ، يهمني انك رأيتني انثى من خلالها !

قطع ذاك الحميم رنة هاتف لم تتوقف ، كانا يكتفيا بالنظر الى بعضهما البعض ، هي بخيالها و هو بعجزه !

رن الهاتف مرة اخرى وتلك اللحظة مد يده وهي رفعت نفسها و جلست جانبا حين نظر الى الرقم ، رقم دولي غضن جبينه وهو يفتح ويرفع الصوت  : جائته نبرة متقطعة غليظة : آيدين إيميل اخذ مني زوجتي رهينة !

انحنى اكثر برأسه لا يفهم ، نظر ثانيتا الى الهاتف و رفعه الى اذنه : من ؟

قال الاخر في حقد وغل : من يا آيدين من ، انا من تدمرت حياته بسببك ، انا من خُطفت زوجته منه بسبب اعمالك ، انا من حطمني ايميل ، انا زكريا يا آيدين !

كانت الصدمة قليلة في حقه ارتفع الضغط الى رأسه كادت عروقه ان تنفجر ضغط على الهاتف بقوة : زكريا ، كيف وصل اليك ايميل

اجابه على عجل : ايميل يبحث عنك قد جاء من بريطانيا خصيصا لكي يمحني من الحياة فقط لانني قريبك  آيدين المهم ان تأتي ، تأتي وتحضر معك احد ابناء عمك لابد ان اجد زوجتي

كيف يفاجأه هكذا ، ما هذه الكارثة ، ايميل يبحث عنه ؟!!

ايميل دمر زكريا كيف ولماذا ؟ كيف وجده ؟!!

اخذ يحترق في مكانه وهي بجانبه تسمع لما يقول ، هو قد نسي هنا تماما انه يتحدث عن شخص تعرفه حق المعرفة ، شخص قد دمر حياتها بالكامل ، شخص قد جعلها تعيش في المنفى ، منفى ذاتها ومنفى حياتها

ازرق وجهها من الصدمة وهي تحاول ان تستوعب ما يحصل ارتعد جسدها وكأنها فوق هزاز

يقول له : اين انت الان في اي بلد

يجاوبه الاخر : في المانيا !

مرر لسانه فوق شفتيه يرطبهما بقلق : زكريا غادر المانيا في الحال

صرخ فيه بغضب عارم : كيف تريدني ان اغادر و زوجتي معه معه الا تفهم ما اقول،  لقد خطفوها ، منذ اشهر وانا ارقد في المستشفى لقد دمر ايميل لي حياتي دمرها الا تعقل

كان يحاول ان يستوعب زكريا و غضبه وحزنه وارتباكه : سأحاول ان احجز في اقرب وقت اعدك

وهي قد انقلب رأسها الى الخلف ورعشتها تزداد مع كل كلمة وكل حرف جسدها يتكهرب و اعصابها تتلف خرجت كلها عن السيطرة فامسكت برأسها بين يديها تصرخ : لااااااا لاااااا كانت تصرخ و تتشنج

فجعته وهو يقلب نظره اليها في يده الهاتف الذي سقط من يده يرفع رأسها بلهفة و خوف  يهزها : تمارا تمارا ماذا حصل لكي تمارا

صار يضرب على خديها وهي قد انطبقت اسنانها فوق بعضها البعض و صارت تعض عليهما بقوة و رجليها التصقتا ببعضهما و يديها تشنجتا فوق صدرها و اخذ كل جسدها يرتعد مع بعضه وتصدر ازيزا متواصلا ازززززززز

رفع صوته يصرخ بملء جوفه  فوق صدمته : تماارا تماارا افيقي ماا حصل لك تمارا ا

فتح عينيه على وسعهما وهو اخيرا يستوعب ما حصل ، يستوعب ما قال ، يستوعب ذاك الاسم ، يستوعب ذاك السم ، كيف حصل هذا ، كيف نسي نفسه ، اسود وجهه و انتفخ صدره وهو يراها هكذا بين يديه ، تمارا تموت انها تموت بسببه : تبااااا تبااا يا الله يا الله   

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الخامس و الأربعين

  أشعل سيجارة.. من أخرى أشعلها من جمر عيوني ورمادك ضعه على كفي .. نيرانك ليست تؤذيني كان يستيقظ هذه المرة بلا كوابيس ، بلا اجهاد ، المرة الو...