الجزء السابع عشر
لم يكن لباريس ان تكون مظلمة في وجهه وهي التي تبهر زوارها بانوارها الساطعة و بثورتها السكانية و بجمال شوارعها
باريس التي اختارها دونا عن اي مكان اخر لانه ببساطة هنا لا يعرف احدا ولا احد يعرفه
هنا سيدخل و يخرج مع تلك المرأة وربما مع الصبي دون ان يراه احد و يشك به
هنا لا اصحاب و لا صلات عمل
كان يدور و يدور هنا وهناك واضعا يديه في جيبي الجاكيت ، الجو قد برد قليلا ، نظر الى السماء ليرى بعض الغيوم التي تتجمع و بعض النجوم التي تسطع و يرى من بعيد برج ايفل لا يشعر بطعم اي شيء ، الحياة بالنسبة له اصبحت تسير على خط واحد وعلى مسار واحد ، اليوم هو هنا بين الجموع يتخبط كتفه بأكتافهم و يشم عطورهم و يسمع لغتهم التي لها طرب و لحن على المسامع و تخترق رائحة القهوة و الطعام خياشيمه !
لا يذكر متى جلس ليأكل بكل شهية منذ زمن
في الحقيقة لا يذكر انه يأكل الا حين يجتمع مع اصحابه المقربين طارق والهادي وبصحبة شقيقه يحي ، لا يحتاجون منه ولا يطلبون كل ما يجمعهم هو الانس و الضحك و التسلية لا غير ، فلا مصالح بينهم و لا طلبات تعجيزية ولا حتى بسيطة ، صحبة تخرج من القلب بريئة و طبيعية يا الهي كم يشتاق لهم وكم يشتاق لسماع غنائهم و الرقص معهم على صوت الاناشيد الدينية !
تغيب ذاكرته قليلا عما فعلت تلك به ، ان يغمر نفسه في هذه الحكاية هو تحطيم ذاتي
فعليه ان يتقبل ربما ان الولد لن يصل اليه ولن يعيش معه ، يخطط في عقله كل شيء ، ان جاء و رحل به الى ليبيا فكيف سيدخل به ؟!!
اغمض عيناه و تنهد وهو يفتش في جيبه يخرج سيجارا و يشعله ، يضعه بين شفتيه و يبدأ في شربه بشراهة ثم نفث انفاسه على هون حتى تتزين دوائر بيضاء من الدخان امام عينيه كان يعيش في ضبابة
كيف سيخبر اهله ان له طفلا من امرأة يهودية
ان عرف المجتمع انه متزوج من امرأة يهودية ، هذا على فرض انه تزوج منها و عادت معه ، سيدمرونه ..حرفيا سيدمرونه و يدمرون عائلته بجريرة فعله
ام من الافضل تزوير هويتها او تهريبها الى الداخل و منعها من اي اتصال بأي احد ، ان تسكن في مدينة اخرى لا تعرف فيها احدا الا هو حين يراها و يرى طفله
انها كارثة لم يقدرها حق قدرها !
تبا
خرجت منه الكلمة وهو ممتعظ و يدوس على عقب سيجارته التي انهاها تماما فغمرته رائحتها و ادفاته قليلا
ام هل ينسى تماما ان له ابن في اطهر بقعة و بين اخبث شعب ؟!!
ان ينساه و يتركه كان لم يعلم بخبره . هز رأسه نافيا لا هذا امر غير وارد
فلا ضميره و لا دينه و لا عصبيته لعروبته ولا عصبيته لله يجعلونه يترك هذا الامر دون حل جذري ، حل يريحه و يطمئن به باله تنهد وهو مرهق ، مرهق حقا اغمض عينيه لهنيهة و شعر بتعب النوم يجتاحه
قرر ان يعود ادراجه
الى هناك
الى تلك المرأة التي عاشرها ليلة فانجبت منه طفلا !
الى المرأة التي فتن بها و كانت احد اسباب تعاسته
كانت الريح تلعب في خصلات شعره فيضطر ان يرفع يده ليبعده عن عينيه
يزم شفتيه ويقوس حاجبيه الغليظين كل فكرة تعبر و تخرج ، دوامة يعيشها عقله
قرر ان يعود ادراجه ليتفاهم معها عما يمكن ان تفعل كي يصل الصبي الى هنا !
اما هي فكانت لم تستوعب بعد انها هنا
منذ سنوات لم تغادر الاراضي المحتلة
منذ سنوات تنقطع عن الحديث مع الرجال الغرباء
منذ زمن شغلها الشاغل الدين و البحث عن لقمة العيش و توفير حياة بسيطة لابنها
ذلك الوجه الحبيب الذي ابتسمت لذكراه ذلك الجسد الصغير الذي تغمره في عز محنتها فيوفر لها الدفيء و يمدها بالحياة ، نعم فلولاه لولا ذلك الصبي لكانت منذ زمن في عداد الموتى لأنها لن تقبل الحياة بعدما فعل بها !
ان تكون هنا لترى الزين هو ضرب جنون و ضرب تهور منها
ان لم تاتي لن يستطع ان يفعل شيئا
هي في حماية الحكومة ولو اعطت اسمه لهم لجلبه الموساد الى هناك و لم يرى النور بعدها
ولكن ليس هكذا تريد ان تتصرف مع والد ابنها
هو اباه في النهاية وهو من وهبها هذا الملاك الصغير الذكي !
كانت قد غيرت ثيابها و تستعد للخلود الى الفراش تريد فقط بضع ساعات تريح فيها عقلها
فالمجيء الى هنا و مقابلة الزين اخذا منها طاقة هي في حاجتها
دخلت الى الحمام و تحممت و جففت شعرها الطويل الذي يصل الان الى ركبتيها و ازداد غزارة و لمعانا ، جيدها الخمري و الممتلئة اطرافه و جمال وجهها الذي يسبح له من رآه
قد كانت راعيل من اجمل النساء بل قد لا تعرف النساء معنى الجمال اذا لم يرونها
فهي قد جمعت مكامن الحسن فيها ، كثير من الناس لم يعرف كيف يصفها فيتحيرون في امرها سبحان الخلاق فيما خلق .
ارتدت ملابس نوم مريحة تكشف عن ساقيها و عن اعلى صدرها و كتفيها و شعرها يتدلى من امامها و خلفها و يتهادى معها في مشيتها ، وعنقها دهنته بعطرها الرقيق الذي يساعدها غالبا برائحته الفواحة على الاسترخاء و النوم اما يدها و كعبيها فدهنتهم بكريم مرطب ذو رائحة جميلة ، كانت تشع نظارة و جمالا و نظافة
خرجت بعد ان اغلقت الضوء و سبقتها رائحة الحمام العطرة الى الغرفة
تقدمت مطمئنة الى السرير و ازاحت عنه الاغطية ثم اندست بين طيات فراشها
كانت قد احضرت معها كتبا و كذلك التوراة التي تداوم على القراءه فيها قبل نومها
خففت الاضاءة و عدلت الوسادة و استندت بجيدها عليها و هي تضبط الغطاء فوقها ثم تناولت قصة قصيرة بين يديها وما ان فتحتها حتى تجمدت في مكانها
تراه هناك بعد ان فتح الباب
علا الارتباك و الخجل خديها
احمرت و اصفرت و ارتعشت
هزت برأسها في عينيه : لا
كان يقف هناك
لا يستوعب
كم مرة رآها هكذا في حياته
كم مرة وضع عينه في عينيها
لم يتجاوز بعد تأثيرها و تأثير جمالها على نفسه حتى تنكتم انفاسه و تضيع روحه
يقف هناك كالحارس العملاق مبعثر الشعر واجم الوجه مشدوه النظرات
عينيها في عينيه
عينيها التي بدات للتو في اغداق ما جل من الدموع نعم الدموع
فهي تصورت نعم تصورت ان تنام هنا بمفردها
الا يقض مضجعها ، ان يمنحها حريتها
ان كان بينهم ولد فهذا لا يسمح له بالدخول هكذا الى المكان وكانه ملكه
اليست كلها على بعضها ملكه ؟!!
كان يرى الدموع التي تسقط من عينيها فأغلق عينيه و تنهد ، هو مبحوح لا يريد الكلام و في الحقيقة هو متعب
نعم متعب
عليه ان يعترف لنفسه وللعالم ان رجل مثله ايضا يحتاج وقتا كي يستوعب كل ما يمر في حياته
ان يستوعب كل المفاجأت الواحدة تلو الاخرى في بلده الام ام في بلد اخر
لا تعرف كيف تخرج منها الكلمات متقطعة و كانها كانت تجري لاهثة بنظرات مصدومة : لم اتخيل انك ستنام هنا !
رفع حاجبا متسليا : الا تعجبك الفكرة ، خصوصا انه لم نتقابل منذ سنين ؟!!
القى بنفسه على الاريكة وهو يدير رأسه عنها نعم يفعل وهذا ما خالف توقعاتها حين قالت : مالذي تفعله هنا الن تخرج !
كانت تحاول ان تلملم الغطاء حتى يغطي كتفيها و تجمع شعرها كي تلقيه خلف ظهرها
تدور بخجل بعينها في كل ركن وتعض شفتيها
لا تستطيع ان تتحرك من مكانها والا سيراها كلها وهذا مالم ترغب
هو في الحقيقة لم يتعمق في التفكير بما تفكر به هي ، بما تفكر هي ؟!!
تفكر انه الان سيمارس سلطته عليها و ينام معها هذا كل ما تفكر به وكل ما خطر ببالها حين فتح الباب و رأته هناك
اما هو فكان يفكر في كل شيء يريد ان يضع النقاط على الحروف ، يحاول ان يجمع كل افكاره في صحن واحد وان يعرض عليها ما يريد ، لم يستطع الارتخاء فكل عضلاته و جسده مشدود متوتر مشتت ينظر امامه وكانه يخطط على خريطة
خرج صوته كانه من آتون : والدك يجب ان يأتي و يحضر معه الصبي
ومن هنا سأتدبر الامر
في البداية لن استطيع ان اذهب به للسفارة بجواز يهودي ففي البلاد سيتم القبض علي حتى وان كنت على صلة بالسلطات ففي هذا الموضوع بالذات لا مجال للوساطة او المزاح
القى نظرة عليها ، نظرة جدية : سآخذ الصبي و ارجع به الى تونس ثم الى المعبر الجنوبي وهناك سأقوم بتهريبه
كانت فاتحة عيناها برعب
التهريب ثانيتا
الا يكفي ما حصل معها بسبب التهريب و عذابات التهريب فهزت رأسها غير موافقة : لا لا لن اقبل
هنا قام من مكانه صارخا فهو لم يعد يحتمل اي اعتراض كانت عيناه تستشيطا غضبا كان ثائرا ووجهه مسودا لم يعد يحتمل ان تثبط عزائمه او ان تعارضه فيما يقترح : انتي اخرسي لا حق لك في المعارضة فلولاكي ولولا ما فعلت ما كنت سأصل الى هنا
اتعرفين ما سيكون عليه وضعي في البلاد ان اكتشف احدهم ان الصبي يهودي !!
انتي لا تفقهين ولا تعرفين ولا ترين ابعد من انفك الوضع اخطر مما تتخيلين فهمتي
تراه يقف هناك عاصفا لا تحتمل اتهاماته ولا اقتراحاته الغبية كانت تبكي بحسرة وهي تشد الغطاء بقوة بين يديها : انت ستودي بأبني ستقتله بأفعالك هذه
: لا يحق لك الجدال الم يكن من الممكن ان تتصلي بي او ان تراسليني حين علمتي انك حامل
الم يكن في عقلك ذره احساس لما تفعلين
صرخت فيه بكل قوتها : انا لم اعرف عنوانك ولم يكن هناك اي هاتف كي اتصل بك او ابلغك .. الف مرة قلت ذلك لم استطع لم استطع
كان يلهث وهو يقف هناك صدره يهبط و يعلو يضع يدا على خاصرته و يدا على جبينه : يشعر بالدوار فالامر ليس سهلا البتة التهريب مغامرة فلربما يعتبرون انه خطفه او ان يساومونه عليه او ان يستغلونه فهناك الف كارثة قد تحدث ان علم احدهم بالصبي و بها هي ان دخلا للبلاد او ان وشى به احدهم !
ولكن ان لم يحدث ، هناك سيدبر امر تغيير هويته و دينه ان عبر بسلام ، هناك يعرف الكثيرين داخل البلاد على الحدود وفي تونس سيساعدوه بالتأكيد ! سيرمي اوراقه و يدعي انه لم يسجل الصبي لعدة اسباب منها فعلا انه لم يعرف ان له ابنا ، ولكن هل سيستكين الصبي وهو بين يديه ام سيبكي و يثور و يسوء الامر برمته ثم يتطور .. الافضل ان تكون هي معهم كي يستكين و يطمئن له !
اه يا الله اه ،
التفت اليها يقول بحسم : يجب ان تسلمي !
جمدت في مكانها و تجمدت حدقتاها و تجمدت دموعها وهي تهز رأسها : هراء
اتظن ان ديني سيتغير بين ليلة و ضحاها انا لا اقبل، انا يهودية ثم ليس هناك ما يربط بيننا كي افعل ما تأمر به
تقدم ناحها هذه المرة ووقف بجثته الضخمة امام عيناها التي رفعتها كي تنظر له كان قلبها يرتعش وهي تستمع لما يقول : والدك سيأتي بالصبي و نرحل جميعا و هناك ستغيرين ديانتك هل فهمتي
: لا لا لم افهم من انت لتفرض علي اوامرك انا لم اعد ملكك الدين ليس لعبة و ليس فكرة تخطر على بالك فتنفذها هذه انا قد قابلتني و عاشرتني و انت تعرف ديانتي فلما الان تريد ان اغيرها لا يحق لك ابدا الحديث عن الدين لا يحق لك
انحنى و امسك بعضدها العاري بشدة بين يديه : اولا ..بما انك قد اتيتي هنا فانتي ملكي و ستظلين ملكي و سترحلين معي الى دياري و هناك ستسلمين
ثانيا تغيير الديانة شيء بسيط يحتاج اقتناع وبعض المواد المشجعة على اول خطو ةوهذا ليس صعبا فانت امرأة تعرف اللغة العربية و تقرأين الكتب امسكي القرآن و اقرأي و عالجي نفسك بنفسك !
اصبحت تقاومه و تصرخ في وجهه : انت انسان مجنون مجنون اتركني انا سأبلغ عنك
وجها لوجه الانفاس تتقاتل و الاجساد تتقاتل و الافكار جدا انتحارية ، الاثنان يلهثان و الاثنان متعبان و الاثنان لن يتخليا عن اي فكرة قد نمت و ترعرت في قلبيهما !
انخفض صوته بتهديد : سترحلين معي يا راعيل ستكونين مع ابنك و ساتزوجك حالما نصل هناك الا تريدين ذلك ، الا تريدي ان يكون ابنك شرعيا و زواجك شرعيا ، حتى عقد الزواج سأجعله يسجل قبل سنوات من الان ، سنوات قبل ان يولد الصبي
فتحت عينيها في عتاب و حاجبيها الاسودان مرفوعان في ذهول : انت حتى الان تقول الصبي الصبي ، لم تقل ابني لم تقل اسمه
هزها بحسرة : عندما يكون بين يداي و عندما يعرف دينه فتلك اللحظة فسأسميه ابني !
تركها ورمى بها على السرير تدعك مكان قبضته التي تورمت وهو اتجه الى اريكته رمى بنفسه عليها تمدد و اراح ظهره ووضع يدا فوق جبهته و اغمض عينيه .
وهي رمت برأسها على الوسادة و استدارات على جنبها اليمين و اضعة الغطاء فوق رأسها والدموع تنحدر من عيناها بكل هدوء ، ان تغير ديانتها فهذا حلم مستحيل .. وان تترك ابنها يرحل و يكسر قلبها ولا تراه مجددا هذا مستحيل و ان تترك والدها الذي يعيش على حسها وحس ابنها هو ايضا مستحيل
فأي الخيارات وضعتني امامها
نعم هي تريد ان يكون ابنها شرعيا
لا شك انه قادر على فعل كل ما قال
ولكن هل هي تريد العودة ؟!!
هل تريد ان تعيش لبقية حياتها في كنفه ؟
هل ستتركه يعاملها كامرأة في حياته كزوجة كحبيبة ؟!!
امر الدين هذا الذي خرج لها به مستحيل مستحيل وان انطبقت السماء على الارض فان كان يرغب عليه هو ان يغير ديانته فهي ليست مجبرة و قلبها لن يتقبل الامر فهو سيعتبر كخيانة لكل ما تعلمته و خيانة لوالدها و خيانة لكل العذابات التي حصلت في حياتها بسبب الديانة
اما عنهما فالعلاقة بينهما جدا متعبة و جدا متوترة و فيها سقطات كثيرة و عظيمة فهو يفكر و يقرر عنها بكل بساطة و يعتقد ان كل شيء يسير في الحياة حسبما يريد ، وهذا مستحيل
التعب سيطر عليها و الدموع نشفت على اعتاب اهدابها و سيطر النوم على جفنيها تاركا اياها تغرق في احلام كثيرة متقطعة و متعبة و مرعبة !
في بيت الاخ الكبير سعيد حيث كان متوترا الى اقصى الحدود
قد سمع الاب اعترافات ناجية و الفخ الذي وقعت به
انه يلوم تلك العجوز الشمطاء التي كبرت الحكاية و فضحت ابنته
انها لن تتوانى عن ايذائهم و هذا كان عملا مقصودا
نعم مقصود ، فهي طالما كانت ترمي كلمات و تلميحات هنا و هناك
كانت تريد ان يعمل ابنها معهم و كانت تريد مالا و كانت تريد ارضا باسمه قد طمعت بهم و لكن ناجية لم تكن لتقبل اي شيء من اهلها كما العادة ، فلو فقط اغلق فمها وحشاه لها بالمال و جعلها تحت .. سباطه .. لم تكن لتستطع ان تفضحهم هكذا وبهذه الطريقة التي وان دلت تدل على انها رغبة في تطليق ناجية و فضيحتها حتى لا تتزوج ثانيتا
كان ينفخ الهواء الساخن من انفه بعنف فان ما فعلته حماة ناجية لن يتغاضى عنه ابدا ابدا
اما في الغرفة في الاعلى كانت ناجية المكلومة تنهمر دموعها على مهل
تشعر بالخيانة من كل الاطراف
لم تهن عليها نفسها ، فهي قد قاتلت و دافعت عن نفسها ليس فقط حبا برؤوف ولكنها لا ترضى ان تجبر او تغصب على احد و تجر اليه كالذبيحة لا ليست تلك ناجية
لملمت خصلات شعرها و قصت ما تشابك منه بلا اهتمام و بدلت ملابسها ببجامة مريحة تجلس و مقابلة لها اختها سكينة التي كانت تتميز غيظا : تلك الحقيرة اقسم ان اجعلها تندم تلك العجوز القوادة
فتحت ناجية فاها مندهشا من لفظ سكينة بل انها بدات تضحك ، علا ضحكها وهي تدمع و تقول : يا ربي كيف خطر لك ان تنعتيها بالقوادة
تابعت سكينة غير مهتمة : تلك المرأة قد حذرتك منها حين جاءت لخطبتك الم تنتبهي ذلك الوقت كيف كانت تنظر الينا والى بيتنا بحسد و غل و حقد لم احبها منذ ان وطات قدميها بيتنا تبدو كالعجوز القوادة
انفجرت ناجية ثانيتا بالضحك و هي تمسك بطنها بيدها و تحاول ان تهدأ نفسها : يا الهي اخرسي اخرسي
فيما نظرت لها سكينة التي على ما يبدو تبدو متأهبة للذهاب الى مكان ما بكل تلك الزينة على وجهها و رائحة عطرها ، تحمد الله ان الجو قد هدا قليلا حتى يتسنى لها الخروج و السهر ثم العودة !
اتكات بمرفقها على فخذ اختها وهي تنظر لها : قولي لي ما رد فعل .. سبع البرومبة .. الذي كنتي عنده
هنا تنهدت ناجية و تبلع ريقها بصعوبة وكانها تذوق الامرين و بالكاد خرج صوتها : تلك الحقيرة قد ملات راسه عني وعن ذلك المختل عقليا أوس , هي لا تثق في وانا اعرف ذلك ولكن ان تصل بها الامور الى هذا الحد فهو شيء لم يعد يطاق ، رؤوف يا عزيزتي ضربني و سبني و طلقني !
انكمش وجه سكينة : ذلك السافل ابن الشوارع يحتاج الى تربية
ردت عليها سكينة في عتاب : اعتقد ان الفاظك اصبحت غير مؤدبة مؤخرا
رفعت لها حاجبا .. من اين لكي ذلك
حين ردت سكينة وهي ترقص بحاجبيها : هذا النوع من الناس لا يستحق الاحترام فإن فعلتي ركبوا عليكي
هنا ضربت ناجية سكينة على كتفها تعنفها : اولادي في كل هذه المعمعة .. تدرين لا اعرف كيف سيتصرف مؤيد معهم
هنا نظرت الاثنتان الى بعضهما البعض و اخذتا تضحكان لأنهما تعرفان ان المؤيد س.. يطربق .. الدنيا فوق رؤوسهم !
التقطت سكينة هاتفها وهي تطلب رقما : دعينا نتصل بالمجدلية و نخبرها اخر التطورات
المجدلية التي رفعت الهاتف وهي في غمرة انغماسها في ذلك الرجل الذي يجلس على طاولة ذلك المكتب يحمل في يده كتابا يقلب بين صفحاته
وهي كانت تتابع عيناه و تحاول ان تعرف ما هو هذا الكتاب الذي يستحوذ على اهتمامه
فكانت تثني رأسها و تميلها جيئة و ذهابا حتى ترى و لكن شيئا لم ينفع فالخط صغير !
كانت تسمع صوت البنات هناك فاهتمت لما يتحدثن عنه و اصبحت مائة في المائة معهن قلبا و قالبا بالشتائم و السباب و العقاب الذي ينتظر تلك العائلة
اما هو في الحقيقة لم يكن يهتم لما بين يديه ، كان فقط يتذكر امجاده
كان هارون في شبابه الغير بعيد كما قلنا منعزلا لا يحب المخالطة و يريد ان يصبح رجلا مهابا بأي شكل كان ، كما وان علاقته مع اخاه آيدين لم تكن طبيعية وله أسبابه
كان يتجول بين الشعبيات و يلقي بنظرته عن كثب الى تصرفات اولاد تلك الاحياء الذي يولد فيهم الطفل رجلا ، هنا يخرج من بطن امه فيرمى في الشارع يتعلم الحياة و الرجولة
يهب لهبة اخوته و يساعد جيرانه و يحافظ على شرف بناتهن و يذود عنهن ، هنا كان يرى كيف يتعارك الرجال بين بعضهم البعض ، فغالبا ما كانوا يتعاركون بالايدي و الارجل و اذا تطور الامر فإنهم يحملون السكاكين و الطعنة تكون قاتلة
لم يحتج هارون ان يتدرب على اي شيء فهو كان فيه العنف الذي يستطيع به قتل رجل و سلخه ان استطاع وان جائته الفرصة المناسبة
كانت فيه الدموية و حب القتل و العنف بشكل جلي على وجهه و الشر بين عينيه
بعدما تزوج آيدين الذي كانت حياته جحيما مع المجدلية كان يحاول الاتصال به و استقباله في بيته ان سمي بيتا و له امرأة محترمة !
ماذا حصل بين آيدين والمجدلية
نعم هو اغتاظ منها و نفر و لم يرغب في معاشرتها هكذا كانت رغبته
ولكن ما يفكر به شيئا و غريزته كانت شيئا اخر خصوصا انه كان شابا مجربا هناك في الغربة قد عاشر انواع مختلفة من الفتيات عذراوات وغير عذراوات تعلم منهن كيف يحب المرأة وكيف يدلل جسدها و راى منهن كيف يغوينه و كيف يخبرنه بدون اي حرف انهن يردنه !
كانت تجذبه المجدلية نعم جذبته و لكن هو كان يقاوم ذلك الانجذاب ، يريد ان يحفظ ماء وجهه و كرامته امام ما تفوهت به عنه وواضح في نظرات عينيها ، فهي تحرص على الابتعاد عنه و تذكيره بعينيها انه شخص غير مرغوب
ولكنها في ذات الوقت كانت تاخذ راحتها بالملابس التي جاءت بها
جسدها كان مغريا و خياليا و يثر مخيلته الى الحب والى عناق الحبيب و الى الدفء و القبلات
تجلس هناك تلبس شورتا ضيقا يبرز مؤخرتها و يكشف عن فخذيها الممتلئين بحلاوة و بودي يفصل صدرها و مفرقه و خصرها و رقته و كتفيها و لمعانهما و زينة وجهها بأجمل زينة و شعرها الذي ترفعه غالبا فتتدلى منه خصلات رقيقة حول عنقها الذي يريد ان يعضه مثل مصاص الدماء
كان يخشى ان يفصح عن رغباته او ان يدخل الى الغرفة التي اختصتها لنفسها و حرمتها عليه كان يسيل لعابه عليها حين كانت تخرج قبل النوم الى الحمام و هي تلبس ملابس عرائسية منها الشفاف ومنها العاري تماما و كل شيء قد يثير مخيلة الرجل
رويدا اخذ ينسى ما مر به و يحاول التعلق بها بتلك المراة العنيدة التي تنكر عليه حقه فيها و تمارس عليه الجلد اليومي.
كان يتسلى حين تقف على عتبات الابواب وتلك عادتها واضعة يدا في خصرها و هي تنظر الى عينيه و تقول : سيد آيدين هلا تكرمت و احضرت طعاما
: سيد آيدين هل لك ان تعدل التدفاة
: سيد آيدين هلا اخذتني الى المكان الفلاني
: سيد آيدين هلا تلملم الفوضى التي تفتعلها في البيت !
رغم انها لم تعامل البيت على انه بيتها فهي كانت حبيسة غرفتها تاكل و تشرب و تنام و تمارس كل يومها هناك ولا تريه سحنتها البهية الا فيما ندر حتى بات يشتاق اليها
ففي مرة تصيدها وهي تخرج من الحمام
كان يسمع صوت الماء ثم اغلاقه و صوت خطواتها وهي تتجه الى الباب في تلك اللحظة قفز امامها و هي تفتح الباب فتفزع امام جثته الطويلة التي تنظر اليها من علو ، كانت نظرات تسلية و ابتسامة شقية على شفتيه ارتبكت من تلك النظرة التي رأتها
كانت عيناه تركزان على عيناها و كان يعض شفتيه و هو ينتقل الى شفتيها
حتى الان لم يكن شجاعا تماما كي يجذبها اليه و يجعلها تنتمي اليه قلبا و قالبا
بل كان عقله يتردد هل اذا فعلها ستقبل به او تنفر منه لم يحسم امره
وكان هذا خطأه الدائم معها
مجدلية كانت من النساء التي تريد من الرجل ان يفرض قوته عليها
كانت وهي شابة شغوفة بقراءة الروايات الغربية كروايات احلام و روايات عبير ، فكانت تقرا الرواية بانسجام و تعيش احداثها و تنبهر برجولة الرجال في كل تلك الروايات كيف يبدو الرجل قويا و بدائيا و حاسما لأمره مع امراته التي يعشقها ، كيف ينظر البطل الى البطلة و كيف هو قاس معها و بطريقته بجذبها الى صدره و تقبيلها بالقوة
في قرارة نفسها كانت تتمنى ان يحصل ذلك خصوصا انها لم تلمس من آيدين اي اهتمام منذ يوم الزفاف فهو قد تركها على راحتها ولم يتحرش بها وهذا ما اثبت نظريتها عنه و انه مخنث و كل شيء فاسد في الرجل وجهته تجاهه و كرهته
تردد كثيرا حتى في وقفته هذه رغم الشبق الذي تراه في عينيه غير انه بدا ضعيفا امامها و ليس له قرار فلم تترد في دفع يده ثم دفع جسده بعيدا عنها في قرف و نظرت له نظرات شزر كارهة : اياك ان تتحرش بي مرة اخرى
و اندفعت الى غرفتها
عاش تلك الفترة معها على ذاك الحال هو لا يجد الشجاعة امام قسوتها عليه و قلة رغبتها به فهو لا يريد ان يجبرها على اي شيء بل حاول ان يكون رفيقا بها و رقيقا في التعامل معها فهي على اي حال انثى وهو لا يريد ان يرتكب المزيد من الاخطاء في حياته !
في يوم طرق عليها الباب ثم فتحه ، كانت تستند على كرسي امام النافذة تقرا رواية و تهيم معها و تعيش مالم تعشه في الحقيقة مع البطلة حين رفعت رأسها فانتثر شعرها حول وجهها كانت بلا زينة فبدت رائقة جدا و لامعة و ازدادت لعينيه جمالا ، ابتلع ريقه حين قال : اخي هارون سياتي للزيارة
رفعت حاجبا واحدا مستهزءا : اف لا ينقص الا ذاك المتوحد
وماذا تريدني ان افعل ، سيسعدني جدا ان تعتبرني غير موجودة
هكذا قوضت عزيمته فهو توقع ان تقف معه حين ياتي شقيقه ولكن عبث
هز رأسه و تركها براحتها ثم اغلق الباب خلفه
عندما وصل هارون بمظهره المتشرد و لحيته الطويلة و عيناه الهائجتان كالبحر الهائج تماما ، دخل يسلم على اخاه الذي رحب به بسعة صدر وادخله جلسا معا يتقابلان : سعيد انك قد لبيت دعوتي اخيرا
التفت وجه هارون باستهزاء الى كل زاوية : يا الهي ما هذا الانجاز ، لقد تزوجت و كل العالم يتزوج حتى الحيوانات تتزاوج فما الامر الجلل في ذلك
احرج آيدين وصار وجهه محمرا من تعليق اخاه الغير مبالي بمشاعره : قل لي ما اخبارك
لكنه التفت بملل : هل سنشرب شيئا
وقف آيدين من فوره قائلا : ساجلب العصير
هنا انفجر اخاه في الضحك التفت له يتوقع ان يسمع منه لما يضحك : عصير يا الهي هل انت طفل ، سكت وهو يفتح عيناه على وسعهما : اريد شيئا اصفرا لامعا يدوخ رأسي ذلك هو شراب الرجال
فهم مقصده الم يعش هو هناك و شرب حتى ثمل و يعرف كل نوع وكل لون وهذا مع زيتون واخر مع مكسرات واخر احمر في كأس خاص و هذا في كوب و هكذا !
جلس في مكانه يواجه جثة اخاه : لا ليس لدي خمر في البيت
غمز له اخاه : ولا حتى لليالي الحميمة
هنا ابتسم آيدين و هو يضع اصبعا فوق شفته : هناك اشياء كثيرة لليالي الحميمة يا عزيزي حاليا الخمر ليس بينها
رفع اخاه رأسه للسقف يشقلب عينيه متبرما : اخ يا لك من رجل محتشم
في هذا الوقت دق الباب و دخلت المجدلية التي كانت تلبس بنطال يضيق حتى خصرها معه بلوزة زرقاء وزينت نفسها و لبست حذاءا عاليا تحمل في يدها كوبين من القهوة و بعض الحلويات الشرقية
حاولت ان تبتسم حين وقعت عينها في عيني هارون الذي كان يطيل النظر الى جسمها و طولها و وجهها ثم التفت الى اخاه يغمز له علامة .. ما كل هذا ..
سمع صوتها الغنج يرحب به : مرحب بك يا ابن العم منذ زمن طويل لم نراك
القت ابتسامة الى وجهه فتعلقت عيناه بعينيها وهي ترى تلك النظرة القاسية نظرة الرغبة نظرة الهوى التي اسرت قلبها و دق له و ارتعشت له يداها لا تدري لما صعد الدم الى وجهها حتى شعرت بالحرارة و بخداها يلتهبان و عيناها تعتمان فمنظر هارون كان حقا قاسيا شوارعيا هناك علامات في وجهه زادته وسامة وتدل على رجولته و يداه مسمرتان وشعره غير مهذب ، هناك رأت في هارون كل مواصفات الفتى الذي تترقبه و تقع في غرامه
اما الرجل الاخر الذي اخذ كل شيء بنية صافية لم يكن يعرف مالذي يجري في عقل المرأة التي تعيش تحت سقفه وانها قد بدأت تخونه في عقلها !
المانيا حيث زكريا الذي ينام منذ زمن في مشفى للعمليات التجميلية
هو تحسن الان كثيرا عما سبق
يستطيع الان ان يفكر بوضوح
ان يمشي من جديد بلا اي معوقات
ان يفتح عينه السليمة و يرى كل ما حوله
ان يحاول ان ياكل بنفسه
اما عن وجهه الذي مارس عليه الاطباء كل انواع الترقيع فقد صار افضل
تغيرت ملامح زكريا كثيرا نعم تغيرت
زكريا بعد هذه الحادثة لم يعد كما هو
هو غادر تلك البلاد كي يبتعد عن المشاكل ، كي يبني حياة جديدة سعيدة ووجد تلك المراة التي منحته تلك الحياة
زكريا لم يعد يفكر في غالية و لا في حبها و لا في موتها و لم يؤلمه ضميره عما حدث
زكريا بدأ يخطط الان لما سيفعل ، اولا كيف يصل لإيميل و هذا شيء لن يساعده عليه سوى آيدين
لابد ان يعود لاحقا الى السويد كي يطمئن على بنات ايمان
ايمان يا الهي يا ايمان
من ايمان ؟
ايمان تلك المراة التي كانت تعمل في تنظيف المنازل هناك في السويد ، نعم فعلت ذلك وهي العربية المسلمة التي اذلت نفسها في عرفنا وبدات تنظف منازل الغربيين
ايمان خذلتها الحياة كما كل انثى
تزوجت في ليبيا و غادرت مع زوجها الى السويد والذي كان يعمل هناك كانت له شقة محترمة و راتب محترم و حياة محترمة
انجبت ايمان بنتها الاولى وكانت جد سعيدة ، كانت تمضي وقتها في التسوق و العطلات و انفاق المال عليها وعلى صغيرتها الجميلة و كانت تحب زوجها وزوجها يحبها ايضا و يعيشا في سعادة ثم حملت ثانيتا و انجبت طفلة اخرى و لم تقصر في حق اي منهم دللت البنات و دللت زوجها ووضعته فوق رأسها وحتى ذلك الوقت كان زوجها محافضا و مصليا و محبا و يعمل من اجلها ومن اجل بناته
الى ان لاحظت عليه يوما الارتباك ، ثم علامات الخيانة
نعم قد بدأ زوجها يخونها مع امراة افغانية
وليس هذا فقط فقد تغير حاله تماما فهو لم يعد يطيق البيت ولا يطيق البنات و لا يطيقها
لم يعد يصرف على البيت وصار ماله يذهب الى تلك الفاجرة العاهرة التي صارت تمارس معه الحب في بيتها و صارت تدلله و تعطه مالم تعطه له زوجته في علاقتهما التي سماها بالرتيبة
بالطبع فالعاهرة ستبذل قصارى جهدها في الفراش كي يتعلق بها الرجل و ستمارس معه اشياءا لم تمارسها معه زوجته وهذا كان سحره !!
اسود وجه زوجها نعم اسود و اصبح قاتما عبوسا شريرا صار يمد يده و يضرب صار يشتم صار لا يحترمها امام بناته
وهي تدمرت حياتها حين جاء لها في يوم قائلا : انتهينا ، انا سأذهب لاعيش مع امرأتي الاخرى !
لم يهن عليها نفسها فلملمت ثيابها و ثياب بناتها و خرجت الى حيث شقة اخرى اصغر ومكان اخر لا تريد ان تراه ولا تتواصل معه
طلقها هي ام بناته الطاهرة الشريفة و تزوج تلك العاهرة نعم تزوجها وهي اصبحت تحتاج الى عمل كي تصرف على نفسها وعلى بناتها
ايمان لم ترد العودة الى بلادها ، نعم لا ، فهي هنا قد تعودت على الحياة و تعلمت اللغة بسرعة و انسجمت على الحرية حتى انها تركت الحجاب و صارت تلبس مثل الاجانب
اول شيء قامت به ان سجلت نفسها عند مصلحة العمال و اشترت معدات للنظافة وبدات تعمل في تنظيف البيوت ، عملت وعملت وعملت حتى استطاعت ان تجمع مبلغا يجعلها تفتح فرعا صغيرا و تشغل معها امرأة اخرى ، صار العمل يكبر و المال يسد حاجتهم جميعا فانشأت شركة نظافة صغيرة .. ومن خلال هذه الشركة تعرفت ايمان على زكريا الذي جاء يوما اليهم يطلب خدمة تنظيف فتفاجأ ان المرأة التي تعمل هنا هي ابنة بلده
صار انسجام بينهما ، انسجام كبير حتى طلب منها الخروج فخرجت وسهرت معه ثم بعدها صارت السهرات على الفراش بلا رقيب يرقبهما !
زينت ايمان حياته ، فهي كانت امرأة شجاعة و حيوية و تفكر في المستقبل
امرأة لا تندب حظها ولا تراجع حساباتها ولا تلتفت للماضي
عاشت حياتها و سعدت بها و اسعدته معها
تلك هي ايمان التي اما ان يكون ايميل قد قتلها او ان خطفها !
نزلت دمعة من عينه فهو يشتاق لها و يحن عليها و قلبه يعتصر لفرقاها
فان كان هذا مافعله ايميل به فكيف بإيمان تلك العذبة الجميلة !
تحسر في نفسه
هو متعجل في الخروج كي يبدأ رحلة البحث و الانتقام ربما انتقامه اصلا سيبدأ من هناك .. من بلاده !!
اما عن يحي المتخبط الذي دار ودار ودار في شوارع المدينة وفي احيائها العتيقة حتى وصل الى هناك
هناك حيث البدايات كلها
حيث كل الذكريات والآم
الم تبدا غالية حياتها معه مع هؤلاء الاطفال هنا
هنا رآها تضحك و تبتهج و تصبح روحا حرة
هنا كان يراودها عن نفسها فترفض
هنا في هذه الاحياء عاش حياة موازية لحياته فهو اخر النهار يرجع الى بيتهم ولا يتصرف كانه قد فعل شيئا اخر يسعده في يومه لا يذكر منه سوى ضحكاتها و حركاتها و كلامها و قصصها كانت تبدع في جعله يجن بها
ولكنها فوق كل هذا كانت تعشق هذين الطفلين
يخرج من سيارته و يتجه بخطوات واثقة و يدق الباب
كان ينظر الى الحي فآخر مرة جاء فيها هنا كان هناك كارثة تفرج عليها العالم شاب يذبح في غرفته !!
استدار واجما حين انفتح الباب و بان عليه شبح بروين
عدل نظارته وهو يرحب بعمه : عمي اهلا بك زارتنا البركة تفضل تفضل
دخل يحي و صار يمشي في حاجر ذلك البيت و قلبه يدق الف دقة في الثانية وهو متماسك لا يريد ان يتهور كما فعل سابقا
من الواضح ان شيئا قد حصل لها
نعم شيء غريب حصل لها منذ ان اعتدى عليها وسط الشارع و ضربها حتى ادماها
ربما فقدت ذاكرتها ولم تعد تعرفه حقا
او ربما تلعب معه لعبة سخيفة هو في غنى عن لعبها معها ، تحدث بصوت واثق : هل انتما بخير يا بروين ؟!
نظر بروين من خلف نظارته الى عمه في رضى : كل شيء على ما يرام يا عمي تعال تفضل في الداخل فالجو هنا قد يبرد
سار امام عمه و عمه يلحق به و جوفه يرتعش صار يرفع يده يمده الى شعره يرجعه الى الوراء ومن يعرف يحي سيعرف الان انه متوتر جدا
اخذ يجول بعينيه في المكان حين كان يسمع همهمات بروين : تعرف يا عمي في المرة السابقة كان لقاؤنا بالمرة غير جيد ، انا اتوق للجلوس معك و الحديث فمنذ زمن لم نرك قد اشتقنا اليك والى كل عالمنا الصغير
كان الان يتحدث من قلبه
نعم يشتاق وكيف لا يشتاق وهما هذان الرجل و المراة الغريبة توليا امرهما و عاملهما كانهما اولادهما و ربياهما معا و صرفا عليهما : عمي كيف حال عمتي غالية ؟!
التفت بسرعة مفجوعا بعينين مفتوحتين ، انخرس عقله و تجمدت شفتاه فهو لا يعرف ماهية هذا السؤال ،، يريد ان يقول انها هنا معك في الداخل ، تغضن جبينه و بانت عليه القسوة وهو ينظر في عيني بروين الذي يظن انه يضلله و يكذب عليه وما سؤاله الا كي يتوه عن الحقيقة وهي انها هنا في الداخل وسيجرها خارجا بعد لحظات جرا : الاخبار عندك يا بروين
سكت قليلا وهو يريد ان يسال عن حاله : اخبرني ماذا تفعل في حياتك
رغم انه يعلم كل ما يجري في حياة الطفلين فكل شيء يصل بالورقة والقلم ، رد عليه بروين : ان ااعمل الان يا عمي
فتح يحي عينا : حقا وماذا تعمل و اين ؟!
كان متحمسا ليعرف فهذا الامر لم يصله بعد من مليكة التي والظاهر تخبيء عنه الكثير
: اعمل في شركة لتصميم المواقع الالكترونية يا عمي
هز يحي رأسه متفهما : رائع ، من الجيد ان تعمل و تصرف على نفسك فليس للرجل كرامة بلا عمل !
نهض بروين سريعا من مكانه وكانه متوتر : هل احضر لك شيئا يا عمي شاي قهوة شيء تشربه ماذا ترغب
كان متلهفا لخدمة عمه الذي كان كل عقله مشغولا بباب تلك الغرفة هل ستفتح و تخرج ام لا هل سيراها اليوم ام سيقتحم عليها الغرفة و يسحبها مثل المجنون الى الخارج
كان يهديء نفسه و يلزمها التصرف باتزان قبل ان يفضح امره : اين هي ؟!
غضن بروين حاجبيه و ضيق عينيه من خلف النظارات : تقصد ديالا ! نعم هي في الداخل هل تريد ان تراها سأخبرها انك هنا !
رقع قلبه الف رقعة و صار صدره يتحرك الى اعلى و اسفل و صار يتعرق بشدة نعم بشدة حتى نشف ريقه و اصبح يريد جرعة ماء تبلله ، كيف لكي ان تفعلي بي كل ذلك
كيف لكي ان تقتليني وان تحييني
كيف لكي ان تخذليني
وضع يده عند قلبه يتحسس صدره وكانه يضيق عليه
يشعر بالحزن يجتاحه كانت عيناه ستدمع
حين خرجت ووقفت هناك في خجل و شعرها كما هو يحبه يحاوط وجهها الرائع البهي الجمال عيناها في عينيه تنتقل من عين الى الاخرى وكان صامتا شادا على شفتيه
تقدمت بخطواتها الصغيرة وهي تضع يدا فوق ذراع مرتبكة و تعض شفتها ، فهي لا تنسى ما فعل معها المرة الماضية ، تشعر بلقبها يطرق ، هل خوفا هل لشيء اخر لا تدري تعلم انه يكاد يخرج من بين اضلعها لم تحد نظراتهما عن بعضهما البعض حتى جلست امامه
هناك فقد عقله اراد ان يركع ان يسجد عند قدميها ان يصلي لله و يحمده انها هناك انها لم ترحل انها نفسها بأنفاسها التي تثبت انها حية ، انها هنا يا الله
نطقت بصوت خافت : كيف حالك !
كلمة عمي لم تعد تناسبه لم تعد تخرج معها كما الماضي حين كانت طفلة
فهي الان فتاة ناضجة جميلة ونظرات .. عمها .. لها بهذه الطريقة لا تجعل لها مجالا للتفكير اكثر ، فهي كانت متعلقة به وهي صغيرة والان هو هنا يريد ربما ان يعود اليهم و يعيد المياه الى مجاريها !
بالكاد استطاع النطق وهو يحدق فيها و تقفز كل ذكرياتها امامه ، غالية ، الحبيبة الضائعة ، الحبيبة الميتة هي ذا !: انا بخير
اراد ان يقطع هذا الصمت الشجي وهذا الدفيء الذي غمره برؤيتها حين حضر بروين قال لهما : ما رأيكما ان تعودا معي الى البيت !!!
قد كان ضرب جنون ما يفعل ويعرف هذا
يريدها قربه هذه المرة لن يضيعها يجب ان تأتي معه و تعيش حياتها بين يديه
يعطها كل شيء ، سيسلمها قلبه في صندوق و تغلق عليه و تخفيه عندها
سيجعلها ملكة على كل مملكته و اميرة عصرها و سيعوضها عن كل ما فعل معها
تردد الاخوان وهما ينظرا الى بعضهما البعض فالنظرات المتبادلة كانت حوارا صريحا بينهما حين نطق عنهما بروين : انا لا استطيع ان اترك الحي فلدي الكثير من الصداقات و الاعمال التي يجب ان انجزها
اما عن شقيقته التي هزت قلبه برفضها : نحن نعيش هنا و تعودنا على حياتنا لا نستطيع ان ننتقل فجأة الى حياة اخرى
نعم هي تلك غالية التي ترفض دائما ان تكون معه هي تغيضه لا تريد ان تريح قلبه ولو لمرة واحدة في حياتها ، لا زال يقدر وضعها ، فالصبر هو الحل الوحيد : ولكن انا لا ارتاح لما تفعلانه هنا ، فالواضح ان الحياة هنا خطرة فالحي قد تغير والناس تغيرت و المجرمين اصبحوا في كل مكان ، يريد ان يقنعها : في بيتي هناك حراس و هناك بوابة لا يستطيع احد ان يعبث معكما ولا ان يتعرض لكما و هو مكان آمن لمن هو في سنكما !
نظرا الى بعضهما في ارتباك ، هما لا يريدا ان يظهرا جاحدين ولا ناكري جميل لكل ما فعله معهما ، فهو قد صرف عليهما فوصلا الى ما هما عليه الان ، هي ستنهي قريبا دراستها الجامعية في كلية الحقوق وهو الان يعمل في شركة محترمة !
قرر ان يتدخل وهو يعدل وضع نظارته : عمي يحي انا اشكرك لما فعلته من اجلنا فانا لي طريق اخر غير طريق القصور فالحياة هنا ممتعة اكثر فانا شاب ولا اريد ان يتم تحجيمي او السيطرة على تحركاتي ، ولكن معك الحق فأغلب الوقت شقيقتي وحيدة في البيت و انا اخاف عليها فلذلك باستطاعة ديالا تقرير ماذا تريد البقاء ام الذهاب معك !
كانت عيناه الان متعلقتان في تلك التي تمزق جوفه وتتلاعب بأعصابه ، الن تقول نعم اخيرا سأعيش تحت سقفك ، كان متلهفا لردها الذي يراه على اعتاب شفتيها .. قولي نعم سأتي قولي نعم ...، رفعت كتفيها وهي تقرر : لا ادري هل هناك افضل ام ابقى هنا لا ادري ، هل تعيش لوحدك !
سؤال عينيها الخائفتين ، فالواضح ان كان يعيش لوحده فلن تأتي ، سيقوض كل محاولاتها للهرب منه و التباعد عنه : لا ، ليس وحدي ، فالبيت فيه ابي و امي و اخوتي و الخادمات و بيت عمي ملاصق لنا في المزرعة والبيت عامرعندنا زوار طوال الوقت !
اخذت تنظر الى شقيقها الذي قرر عنها : عمي يحي اعطها بعض الوقت كي تلملم حاجاتها و تذهب معك سأتصل بك حين تجهز تماما !
كاد ينفث هواءا ساخنا بصوت عال فهو الان مرتاح مرتاح ولا يستطيع ان يصف السعادة التي غمرته حين القى نظرة اخيرة الى محياها البريء وهي تبادله النظر في خجل !