المشهد العاشر .. حارس العذراء



 


السماء ملبدة بالغيوم والجو بارد جدا

رمادي شديد الصقيع كالذي يلف قلبها

تجلس في غرفتها متدثرة بذالك اللحاف الوحيد

تراقب قطع الجمر الملتهبة التي امامها تترائى لها فيها عينان حيرتاها !

وحمود الذي يلعب بكرة صغيرة في الغرفة

مفكرة !!

منذ فترة طويلة لم تعمل

منذ ان تركت وداد المشغل ، فكل زبائنها كانوا من طرف وداد !

تعاني مرار الحاجة ، لا زال للصبر مكان في جوفها !

جسدها ومعدتها يستصرخانها الجوع

منذ زمن وهي تربط الحزام !!

هي تحكمها المعيشة والبيئة .... والسياسة !!

كل ما لديها توفره لحمود،

وكما قال خالد هم من لا لزوم لهم في المجتمع ، هم فقط عالة عليه !!

وهو كالعادة قد اخلف وعده !!

كم من السهل علينا ان نطلق الوعود عندما نتألم او نتذوق علقم الفقد !

كان على وشك فقدانها فوعدها ، وبعد ان طابت .. رجعت حليمة لعادتها القديمة ..!!

,,,

للحظة خالت انها قد سمعت شيئا

نظرت الى حمود الذي كان يدمدم بكلمات !!



آه يا الهي

تنهض من مكانها مسرعة الى حمود الذي امسكت به من يديه الصغيرتين



حمود ماذا قلت الآن ؟

تنظر له في لهفة فما سمعته لم يكن خيالا !

تصر عليه لكي ينطق مرة اخرى : حمود حبيبي ماذا قلت الان



ينظر لها الصغير بارتباك مصحوبا بشبح ابتسامة قائلا : ما .. ما ميم !!



آه يا الهي

احتضنته بشدة حتى كاد يختنق واخيرا يا حمود قد نطقت بكلمة ..

الحمد لله

كانت سعيدة جدا تكاد تطير

طوال هاتين السنتين لم ينطق حمود بكلمة خالت انه لديه عاهة او مرض

ولكن .. ها هو ينطق بكلمة محببة .. يقول لها .. ماما مريم ..



اه يا حبيبي يا حمود تحتضنه مرة اخرى في فرح

غير مصدقة فحمود بخير لا يعاني مرضا !!

دفىء عجيب غمر قلبها وعيناها !

في هذه الاثناء تدخل وداد من الباب حاملة معها ابريق شاي يتصاعد البخار منه

وفي يدها الاخرى صحن عليه فطائر بالجبن ,,,,



تسمع ضحكات مريم الفرحة .. لم تتخيلها تضحك بعدما مر بها الفترة الماضية ؟!!!



تدخل عليها ضاحكة : مريم ماذا حدث ؟ لماذا تضحكين ؟



آه يا وداد حمود نطق بأولى كلماته



اقسمي ؟!! قالتها باستغراب : اردفت : يا الهي الحمد لله قد كنت جدا خائفة

خصوصا أن ابناء وليد الاصغر منه بدأو الكلام !!

تجلس بجانب مريم تضع الابريق والفطائر وتخرج للمطبخ تحضر الاكواب ..



جلست الاثنتان سعيدتان تستمعان الى همهمة حمود وهو يلعب ويردد ماما ميم !! ( ماما مريم )



اخذت وداد تصب الشاي الحار وتناول مريم فنجانا

ارادت البدء بالكلام ولكن هناك من قاطعهن ...



_ اه حسنا ان وداد هنا ، سأخرج الان .. اعتني بها يا وداد

وقبل ان يغادر يسمع وداد تقول : أعتني بها ؟ أنت من يجب ان تعتني بها وليس انا ! انت اخاها ..

ام انك تهتم لكل النساء ما عدا اختك ؟



تنظر له بتحدي ان ينكر ما تقول ..

فيما مريم تمسك بفنجانها تدفيء يديها به وترتشف منه

مستمعة الى الجدال الذي لن ينتهي بين هاذين الاثنين !!

والاخر الواقف على عتبة الباب

بسروال جينز ازرق اللون وحذاء رياضي وبلوفر اخضر فوقه الجاكيت البني

كان في منتهى الاناقة والوسامة ..

ينظر الى عينيها مباشرة ثم الى الابريق

متمنيا في نفسه ان يسكب هذا الابريق الساخن على وجهها

:ايتها الشمطاء الن تصمتي أبدا ، أقسم أنني في يوم من الأيام سأئدبك يا وداد ..

في كل مرة تستفزه وتختبر صبره

تشير له بيدها غير مبالية : هيا هيا اخرج نريد الحديث ولا نريدك حولنا !!



يا الهي هذه الفتاة لا يقدر على لسانها تطرده من بيته وهو واقف يتفرج !



خرج من البيت وهو يطبق الباب بصوت عال ..





لا يهم .. من يظن نفسه ؟!!

تتمتم مع نفسها فهي في حياتها لم ترى رجلا باردا و مستهترا ولا يكترث إلا لنفسه مثل خالد !!

تلتفت الى مريم الهادئة المتفرجة !

مريم ارجوك لا اريدك ان تحزني من أمر أحمد

انتي لا تعرفين ما الذي جرى له

انتي الحمد لله ما زلتي بصحتك وعافيتك وفرصة الزواج ما زالت امامك

اما اخي .. وتردف بحزن وشفقة على حال اخيها الغالي في قلبها

سيعيش حياته عاجزا

لن يستطع حتى الحلم بامرأة ولا اولاد .. اخي قد دمّر تماما !!



كيف حاله الآن ؟ تسأل في فضول !

ليس بخير ، كل ليلة يصرخ بشدة فائقا من كوابيسه

احيانا اظن ان الحي كله قد سمع صراخه

التعذيب الذي تعرض له طوال هذه الفترة دمره كلية !

صمتت الاثنتان ..

تحتسيان الشاي في هدوء ..

الى ان نطقت : وداد ، من الرجل الذي كان عندك منذ ايام ؟

اقصد الرجل صاحب السيارة الكبيرة

آه امممم وهي تضع الكوب امامها وتمضغ الفطائر : انه العم سعد يعمل احيانا لصالح السيدة حليمة التي اعمل عندها !!

تثرثر,,,

تعلمين اولاد الاكابر لا يهمهم احد ، ينطلقون بسياراتهم من الفجر الى الفجر

حتى الفتيات طوال الوقت يستخدمن السائق

والسيدة حليمة يا حرام كأنها وحيدة !!

اعلم ان شقيقها يقطن الفيلا المقابلة لهم

اهه يا مريم لو ترين تلك البيوت ستتمنين حينها فعلا الموت

واخذت تضحك مجلجلة ,,,

تعرف ان صديقتها حمقاء !

اهمم حسنا ، آه اممم ومن .. الرجل الذي كان يجلس في الخلف ؟

هه ، لا اعرفه !

ماذا ارادا منك ؟

منذ ان علمت السيدة حليمة بحالنا وهي لم تتخلى عنا ، ارسلت لنا المال لتساعد على العلاج !!

تشير برأسها تفهما ثم ..

تصمت ضائعة ، فتنك العينان قد عكرتا صفوها !

وداد التي نغزتها بكوعها في جنبها ضاحكة بلؤم : اهمم حسنا !!

.

.

.



التائه الذي كان يمشي في الحي ليس له رغبة ان يكمل مشواره



وقف الى حيث كانت تلك الايام ...

في ذالك اليوم الحارق منتصف الصيف

قرابة الساعة الثانية ظهرا، حيث الجميع في منزله مختبأ من الحرارة

وكأن جهنم تنفث احدى انفاسها اليوم ..





الحي هادىء

يمشي مسرعا يريد العودة الى البيت

ولكن اوقفه عن الحركة صوت همس انثوي يناديه

التفت يمنة ويسرة لا احد

تحرك واذا بالصوت يخرج اعلى باسمه

التفت الى ذالك الجدار وتلاقت نظراته مع تلك العينين ..



تهمس له في لهفة : خالد ؟!! كنت انتظرك !!

ينظر لها في استغراب ودهشة ناظرا حوله فربما احد سيراه يتحدث الى الجدار !



فيما تابعت : خالد هل لي ان اراك هنا في بيتي ؟!!



حاول التهرب من السؤال .. ومن الاجابة ..

شعر بالخجل فيما احمر وجهه ووضع يده على رأسه دليل ارتباكه

نطق بكلمة : ماذا تريدين ؟

أريدك أنت !! قالتها في كل وقاحة ودلال !

تنحنح وبدأ الشيطان الذي يشبه امرأة يعتلي كتفيه

احممم حسنا سنرى

فر من امامها وهو فرحا لا يصدق نفسه

فهذه اول مرة احدى النساء توليه انتباها !

النساء بالنسبة له لغز لم يستطع حله واراد الاقتراب منه اكثر !

آه ما اجمل النساء !!

هي

كانت اولى تجاربه في النساء



اولى تجاربه في الخيانة



تزوجها رغم عدم رغبته بها بعد الان ..

تعلم منها الكثير

تعلم منها أن لكل إمرأة طعما مختلفا وشكلا مختلفا

تعلم منها كيف ينام في احضان نساء غيرها

وهي تعلم

تشتّم رائحة النساء فيه وترى علامات الخيانة واضحة جلية

وتسكت عنها لأنها هي من علّمه ..!!



:

:





في مكان أخر يتقلب على فراشه كأنه على جمر

يلتهب جسده لتذكر عينيها السوداوين الدعجاوين !

فر النوم من اجفانه

لم يفهم مالذي جذبه لها ..

نظرة البرائة في عينيها ام دموع عينيها ام تلك الهالة من النقاء التي تحاوطها ؟!!

تبدو كطفلة ولكنها انثى !!

يغمض عينيه في يأس يا الهي ساعدني ما هذا الذي يحدث لي !!



جلس على فراشه مشتاقا حالما مربتا على الوسادة التي تستلقي بجانبه

الوسادة الميتة التي لم تعرف معنى رأس إمرأة تهمس له فيها !

كأنه يستشعر انفاسها على وجهه

ليغرق وجهه في كفيه فهذا مستحيل !!



سيبدو امامها وكأنه والدها بكل ذالك الشعر الرمادي

وبطوله وعرضه اللذان لن يعترفا بحجمها !

ولكنها اسرته !

اذا ضمن وجودها معه سيعدها

يعدها انها لن تنام الا على حكاياه

سيصبح لها شهريار المتفنن في ايقاضها

لا لن يدعها تنام ستنصت له ، الى كل كلمة سيتغزل بها

الى كل تفصيل سيرويه عنها



ولكن اولا عليه ان يتأكد انها حرة وحية !!!



فقلبه اصبح يتنفس عشقها ..

مريم ,,

ولابد ان يبحث عن السبب !!

سبب مشاعره الغير قابلة للتفسير

وسيبحث عن حقيقتها بنفسه !!



ارتدى ملابسه في الصباح مبكرا جدا بنطال كحلي اللون مع قميص ابيض وجاكيت كحلي ،

ساعة روليكس تلتف على معصمه الرجولي وخاتم فضي يزين أحد اصابعه

حذاءه وعطره

وشعره الجميل حتى وهو في حالة فوضى يمشطه بيده !

يحمل على ذراعه معطفه الأسود

ويخرج بحثا عن سعد



يجده يجلس على سفرة طعامه البدوية !

يأكل بأصابع يديه مفترشا الأرض

صحن من البيض المقلي وبعض الطماطم والبصل وصحن فول !!

مع قطع من الخبز البلدي الساخن

اممم نظر الى الأسفل الى حيث يشير العم سعد وجلس بجانبه

يضحك عليه

يشير له العم سعد لكي يأكل لقمة فيبدأ الأكل ولكنه لم يقرب البصل !

ينتهيا من الأكل وينطلقا الى المستشفى !!

ينظر سعد الى المرآة كل دقيقة فهو يشعر بشيء متغير في سيده !

نظرات عينيه اصبحت سعيدة ومتشوقة !

ملامح وجهه قد اضاءت وكل ذالك التعب الذي كان قد تلاشى فجأة !

لسنوات طويلة عاش على ذكرى واحدة مؤلمة !

المستشفى الى حيث الفتاة التي جلبناها منذ ايام !!

مالذي تفكر به يا يوسف ؟!



وصلا الى حيث اراد ناظرا الى الخارج

الى المكان الذي احتضنها بدلا عنه !

يلتفت اليه سعد في هدوء مستمعا : إذهب واسأل عنها !!

سعد ينظر له في ذهول : ولكن لا نعرف اسمها ؟!

ليقول في شوق وهمس وكأنه يتلذذ باسمها على لسانه : مريم !

حسنا هل ادخل الى هناك واقول مريم فقط ؟!

ستجد من يدلك عليها اذا لازالت موجودة سأنزل واذا لا سنتجه الى منزلها !!





يهز العم سعد رأسه في فهم .. فسيده ينوي على شيء مع هذه المرأة !



لم تكن في المستشفى فقد غادروا ذات اليوم مساءا !

قالوا له انها بخير

ولكن

هو يريد رؤيتها مرة اخرى !

اتجها الى الحي



توقف العم سعد امام المنزلين المتقابلين ناظرا الى سيده في تساؤل : والآن ؟



يخرج من جيبه ظرفا مغلقا يناوله لسعد انزل واعطها هذا !!

*| لم يدري بأنه بهذا السلوك الذي يتبع به شقيقته قد يجرح عزة نفسها !!

ينزل العم سعد ويطرق الباب ..!!

وها هي وللمرة الثانية يختبر هذا الشعور

ينظر لها وخافقه يعتصره طرقا كاد يبكيه هو مرهف المشاعر !

يبتسم مع نفسه بحب

ياالهي انه يحب !

ما اجمله من شعور .. وهذه الفتاة اعجوبة قد خلقها الله ليحيا من جديد !

لم يسال نفسه لماذا هي ؟ وكيف ؟ وما السبب ؟!!

اتبع قلبه الذي لن يخونه هذه المرة هو يعلم !

اتسعت ابتسامته فيما كان يحدق الى السواد المحيط بها

يحدق الى عينيها التي اسرته

الى اهتزاز شفتيها وفجأة اظلمت عيناه !

فهي تكاد تبكي .. ها هي تتبرم من العم سعد ماذا يحدث ؟!!



في الطرف الاخر من السيارة

لا ارجوك انا لا اقبل مال من شخص لا اعرفه !

يا ابنتي خذي المال فهو للصدقة ارجوكي

فيما كانت تطلق نظراتها باتجاه السيارة

ما السبب ؟ لماذا يحضرون لها المال ؟ هي لم ولن تشحذ المال من احد ؟ ولماذا هذا الرجل بالذات ؟

أحست بالاهانة تغلفها

رغم فقرهم هي طوال عمرها لم تطلب المال من احد ! حتى مال الصدقات لا تقبله !!

فيما وقف العم سعد يترجاها ان تأخذ المال

وهي طوال الوقت تدفع الظرف بعيدا عنها غير راغبة فيه !



الى أن خرج رجل المنزل الذي سمعها تتجادل مع احدهم ..

مريم ماذا يحدث هنا ؟

ارتبكت فهي تعرف جشع اخاها وقد يحرجها الآن أمامهم

يحيّ بيد ممتدة الى العم سعد وعلى وجهه ملامح سرور لرؤيته

شكره كثيرا على خدمته لهم قبل ايام

العم سعد الذي ارتبك لم يدري ماذا يفعل الان هل يعطيه المال ام يتراجع ويودعهم؟!

نظر مرارا الى السيارة والى الرجل الجالس خلف الشبابيك المعتمة

فهم الاشارة وهمّ بالنزول !!



.

.

سيد يوسف

سيد يوسف





التفت الى الخادمة التي احضرت طعام الغداء

شوربة ودجاج وسلطة

داعبت الرائحة انفه وشعر برغبة في الاكل

فكل مرة يتذكرها

تعيده الى حيث ينتمي

الى ارض البشر !!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الخامس و الأربعين

  أشعل سيجارة.. من أخرى أشعلها من جمر عيوني ورمادك ضعه على كفي .. نيرانك ليست تؤذيني كان يستيقظ هذه المرة بلا كوابيس ، بلا اجهاد ، المرة الو...