المشهد التاسع .. حارس العذراء








الآن
يجلس في شرفة غرفته التي لا يكاد يغادرها
والهواء البارد يلعب بخصلات شعره وبجامة نومه القطنية البيضاء !
يستمع لحركات الخادمة الخافتة التي ترتب ملاءات السرير !
منذ مشكلة تلك المرأة وهو متعب جدا
جسده منهار ومريض ..
نعم يعاني مرض الفقدان
فقدانك يا مريم !!
رجله حالتها من سيء الى أسوأ !
يجلس ناظرا الى زرقة السماء وخضرة الحديقة ،..
هذه الغرفة اصبحت سجنه
منزله اصبح سجنا لا يطيقه !
أصبح اسير كرسيه المتحرك !
والسجان كان انتي يا ياسمين !!
يلتفت الى مكتبته والى كل تلك الكتب التي على الأرفف
تنتظر من يفتحها ومن ينفض التراب عنها !
ينظر الى مكتبه الذي نقله الى غرفته وليس له رغبة في الجلوس خلفه
كوب القهوة الذي اصبح باردا امامه !
حتى القهوة كرهها بعد ان كانت الشيء الوحيد الذي يستسيغه صباحا !
الجرائد والكتاب الوحيد اللذان يستلقيان بجانب القهوة منذ ايام !
منذ الحادث الشنيع لم يأتي أحد ليسأل عنه
لم يأتي احد ليطمئن عليه سوى شقيقته الصغرى .. حليمة ..

كلما يتذكرها يبتسم
حليمة اسم على مسمى تشبه في حنيتها عليه أمه و.. مريم ..!

الشقيقة التي هددوها بقطع علاقاتهم معها اذا استمرت في رؤيته !

نعم هذه عائلته
العائلة التي طردته من املاكه ومن املاك ابيه !

بدون رحمة !

كان صغيرا وجاهلا !
استطاعوا ان يضحكوا عليه ويستغلوه !
يظنون أنهم قد خدعوه !!
ولكنهم لا يعلمون أنه يخبأ لهم المفاجآت !

فهو لم يعد يوسف من ذي قبل
فهو الآن رجل قارب الأربعين
غزا الشيب رأسه ولحيته
اصبحت عيناه أكثر جلادة بالخيوط الخفيفة حولهما مع ذالك السواد الذي تتشح بهما !
شفتاه اصبحتا اكثر قسوة واستقامة !

ليس ذالك اليوسف الذي نُفي من بلاده !
ويعيش منفيا في بلاده !


وياسمين التي زرعت خناجرها في صدره خنجرا بعد آخر
لن ينسى ذلك اليوم الذي اتصلت فيه خالته لتخبرهم بحالها

تخبرهم انها قد تزوجت ابن عمها !!

لم يمضي على طلاقنا الا فترة العدة يا ياسمين !!

يفق من ذكرياته على صوت قرع الباب
يدفع سعد الباب ويدخل في هدوء
يجلس مقابلا له !
يرمي بتلك التذكرة على طاولته فها قد حان وقت الرحيل

يلتقط التذكرة بيديه كان سيمزقها
سيرحل بدون ان يجد مريم !

يسمع صوت سعد سائلا : يوسف ! ما الأمر !
لقد تردت احوالك كثيرا ، سنجدها ان شاء الله !
ينظر له يوسف متأملا : نعم سنجدها ..أو هي من سيجدنا !
سعد الذي غص بسؤال كم من مرة اراد معرفة جوابه !
تردد قليلا قبل ان ينطق : سيدي مالذي تريده من إمرأة متزوجه ؟!
لم يجبه .. هو نفسه لا يعرف مالذي يريده من إمرأة متزوجه !!
فلولا إيمانه كان ليستعين بشياطين الانس والجن لكي يعرف مكانها !!

وهناك في البعيد يلوح له خيالها ..

.
كان يجلس على ركبتيه بين وروده
يحمل - في يده التي ارتدى عليها قفازا جلديا اصفر اللون- مقصا صغيرا
ينظر الى تلك الورود الحمراء يقتلع هذه ويعتني بتلك
انها هوايته !
امه التي علمته كيف يعتني بالأزهار فصمم لنفسه حديقة صغيرة يحبها !
ينتعل في رجليه حذائا مطاطيا عالي الساقين

يلتفت على صوت سعد : سيدي سأخرج لساعات السيدة حليمة ارسلتني لتأدية بعض المهام
يستمع له ومازال منهمكا في عمله وقطرات العرق التي تلمع على ذراعيه المكشوفتين وخصلات قصيرة قد غطت جبينه المندّى !
ينهض من مكانه : حسنا ولكن حاول ألا تتأخر !
فيما العم سعد اقترب منه وعينيه تلتمع بالإثارة : ما رأيك أن اريك شيئا لم ترى مثله في حياتك ؟!
نظر الى العجوز كما يسميه وعلى شفتيه ابتسامة محبه يخلع قفازيه
حسنا انتظرني أريد ان ارى ما لديك ايها العجوز !!

وفي سرعة كان قد قفز الى السيارة يجلس في المقعد الخلفي للسيارة العالية الكبيرة جدا !!
في اثناء القيادة كان العم سعد يخرج من طريق ويذهب الى آخر حتى أصبحوا على أطراف المدينة !
كان صبورا ينظر هنا وهناك خصوصا انه لا يخرج كثيرا الى القرى الصغيرة على جانبي المدينة !
الى ان دخل العم سعد الى ذالك المكان
أحياء مدقعة الفقر
بأزقة ضيقة جدّا لا تكاد السيارة تعبر منها
البيوت التي خال انها منذ القرون البعيدة
مبنية بالحجارة ومغطاة بالصفيح !
اغمض عينيه لا يصدق
ما هذا المكان أهناك بشر يعيشون هنا .
فهم بالسيارة قد يدمرون هذه الأكواخ !
الى اين يذهب العم سعد !
اخذ يتأمل وينظر وفعلا هو شيء لم يرى له مثيلا في حياته
كل حياته كانت مرفهة
بين هنا في قصره وبين وطنه المانيا التي تشبه الجنة !


اخذت السيارة في الارتجاج بقوة الى اسفل واعلى مارين على كل تلك الهضاب التي تملأ الطريق
البرك الكبيرة بل بحيرات من المياه المتعفنة
أكوام القمامة في كل مكان ورائحتها العفنة تسكر الأنوف !
والأطفال يا إلهي
إنهم يلعبون في القمامة وفي هذه البرك بملابسهم البالية ووجوههم المليئة بالطين والأوساخ
يركضون هنا وهناك وكأنهم في ملاهي ! يتسآئل اذا يعرفون ما شكل الملاهي !

أخذ يدعك عيناه بشدة غيرمستوعب لما يرى
أفي هذا الزمان توجد هذه الحياة !!

الى أن وصل العم سعد الى مبتغاه
يوقف السيارة بين مجموعة من البيوت التي يكاد يرى من داخلها !

يخرج العم سعد من السيارة يدق على أحد الأبواب !

وها هي قد فتحت الباب
تلتصق بعينيه
خيط رفيع من السحر ربط بينهما
رجلاها تسمرتا عن الحركة
تاهت في صفاء مقلتيه وتبحرت في اعماق عينيه
ابتلعت ريقها مرارا ساحبة انفاسا حارة تليها شهقات بصفير تنذر بعاصفة !
قوة مغناطيسية كبيرة ربطت بينهما كما وان الارض قد توقفت عن الدوران !
عيناها مبللتان بالدموع .. وانفها احمر قان .. وشفتاها استحالتا الى لون الدم !

تبدو عذبة وشهية !
نضرة ونقية !
تحمل على ذراعيها طفل جميل !

وانتهى السحر باليد الصغيرة التي دفعت وجهها في اتجاهه
تلقي عليه نظرة ممزقة بحاجبين معقودين !
وتتحرك الى المنزل المقابل تفتحه وتدخل ..

تابعها بنظراته
قلبه الذي قفز الى حلقه راكضا بسرعة جنونية !!
هل للسماء ان تنطبق على الأرض فتبعثره الى الف قطعة كما فعلت هذه الصغيرة توا ؟!!
تنفس بعمق ومرارة فمن الواضح انها مرتبطة !
التفت الى العم سعد الذي كان يتحدث مع فتاة اخرى ويعطيها ظرفا !!
يا اله العباد !
كم كانت بارعة في صعقه بشحنات كهربائية عجّلت بإنقاض بقايا حياته !
:
:
:
في الجانب الآخر من الأبواب .....
دخلت المنزل وهي لا تكاد ترى ..
تختنق بانفاسها المتلاحقة
كاد الصغير ان ينزلق من بين يديها
شعرت بدوار عنيف وصدرها الذي ضاق فجأة
وكأن صخرة عظيمة استراحت عليه

حاولت التنفس ولم تستطع

اخذت تبحث بعينيها عنه !
صدرها يرتفع وينخفض بسرعة محاولة التقاط بعض الهواء
هي تموت
ببطء شديد
خيال حمود الذي يجري في المكان

غمامة سوداء غشيت عينيها
وانهارت على الارض مرتخية مستسلمة
صوت صفير و شهيق عال يخرج من بين شفتيها
ووجهها الذي بدا يفقد لونه
حمود الذي بكى بصوت حاد عندما رآها مسجاة على الارض وكأنه يطلق زمور النجاة !
خالد الذي يجلس في غرفته يرسل بعض الرسائل الوسخة لصاحبته !

يسمع صوت حمود الحاد

يخرج ليرى ما به واذا به يصدم باخته تلفظ انفاسها
يركض لها صارخا في خوف باسمها
مريم مريم
يضربها على خدها لعلها تستيقظ
ينهض مسرعا الى غرفتها باحثا عن البخاخ الذي تستعمله لمثل هذه الحالات
ارتبك ولم يجده
يرجع لها في سرعة يحملها في رعب فاخته تموت بين ذراعيه

لا يا مريم لن تموتي الان
ما زلت صغيرة ، انا وقذاراتي من يجب ان يغادر عالمك !

مريم حبيبتي افتحي عينيك ارجوكي !
اعدك انني ساتغير فقط افيقي !
يخرج بها من الباب مسرعا

رأى تلك السيارة وهي تحاول الاستدارة في الحي الضيق

يصرخ بأعلى صوته وشقيقته بين يديه : انتظر ارجوك انتظر

العم سعد الذي كان مشغولا في محاولة الدوران وها قد نجح اخيرا لم يسمع الصراخ
بينما الآخر الذي يجلس في الخلف يشعر بشيء مختلف داخله
يسمع ذالك الصوت والصراخ
ينظر الى الوراء يرى ذالك الرجل الذي يحمل فتاة بين ذراعيه
يركض في اتجاههم
فتح النافذة التي بجانبه اكثر واخرج رأسه ليرى ويسمع نداء الاستغاثة !

يا الهي انتظر انتظر يا سعد

فيما سعد نظر الى حيث ينظر سيده
يتوقف خالد لاهثا تعبا لا يكاد يستطيع التحدث
ارجوك... خذني للمستشفى ...ارجوك
افتح الباب يا سعد ..

يحاول ان يجلس في الكرسي الامامي وشقيقته على ذراعه

ينظر الى الرأس المدلى بين يديه
يغمض عينيه مذهولا
ياالهي انها نفس الفتاة !
شعر بالخوف يتملكه !
ومن هذا الرجل الذي يحملها !
براكين غيرة قاتلة تفجرت في اعماقه !!
رجل يلمسها ؟!!
كاد ان يتهور ويزيح يداه عنها !!
ولكن بأي صفة قد يفعل ذالك فهو للتو قد علم بوجودها !
انطلق سعد في سرعة مطلقا بوق السيارة الى اقرب مستشفى
بينما الاخرى كانت قد فقدت الوعي تماما !

اه
يضمها بين ذراعيه باكيا
مقبلا عينيها ووجهها
متمتما .. مريم حبيبتي لا تموتي لا !!
مريم !


لم ينطق بكلمة كان مفجوعا
للتو رآها
للتو كاد ان يلمس محياها
للتو شعر بقلبه يتمزق حبا !
فقط منذ لحظات !

وذالك السحر ما هو ؟
ينظر الى وجهها ثانية فيما كان يغرق في حناياه حالما
ينظر الى شفتيها بامتلاك لا يكاد يدير عينيه عنها !

متمنيا ان يمنحها قبلة الحياة !
أفاق من غيبوبته أخيرا وهو يزيح كل تلك الأفكار الرديئة عن رأسه
يفكر في تقبيل إمرأة تكاد تموت بين ذراعي زوجها !
إنه جنون !

ابتعد بحدقتيه بشرود !
في حين توقف العم سعد امام المستشفى بقوة
ينزل خالد يركض نحو الداخل ..

فيما العم سعد واقفا بجانب السيارة مشدوها
والاخر جالسا مصدوما !

ركب سعد وانطلقا بالسيارة الى المنزل في جو ظاهره الهدوء !!
.
.
.


وداد التي سمعت صراخ خالد في الحي خرجت مسرعة
ترى مريم مجثاة بين يديه وهو يركض بها
تركض خلفه تبكي
مريم !
تمسك بحمود الذي كان يجلس امام المنزل بيدها وتدخل منزلهم وهي تدعو لمريم

فهي تعرف ما حلّ بها !!
.
.
.


مريم التي اسعفوها قبل فوات الأوان كانت في انفاسها الأخيرة
فنوبة الربو هذه المرة كانت قوية ولم تأخذ البخاخ اللازم

تفتح عينيها ببطء تخال انها في مثواها الأخير
ولكنها تشم رائحة تعرفها وتحفظها .. رائحة المستشفى !!
تفتح عينيها اكثر تشعر انها في دوامة
تحاصرها النظرات الخضراء من كل مكان
تحاصرها كلمات وداد التي قتلت آخر أمل لها
أمل الزواج !
:
:
تجلسان بجانب بعضهما البعض فيما كانت وداد جدا هادئة
لم ترد التحدث
منذ يومين قد خرج احمد من المستشفى
وهو الان يكمل علاجه في المنزل
احممممم كانت تصفي حنجرتها فما ستنطق به الآن سيقتل صديقتها !
وبصوت مبحوح : مريم !
تنظر لها مريم في تساؤل فحال وداد لا يسر


تواصل وداد الكلام وهي تشتت نظرها في كل اتجاه متضايقة ومحسورة على كليهما !
نافثة هما ثقيلا من صدرها فلابد ان تخبرها !
مريم .. أحمد لقد عذبوه بشدة في السجن هذه المرة
أرادت ان ترتاح من هذا الثقل في جملة واحدة
لقد افقدوه رجولته في السجن .. بينما تستدير برأسها متهربة ناطقة دامعة ..
هو يقول لكي بأنكي حرة !!

فيما الذهول والحسرة عبرت عنهما بشهقة من حنجرتها !
افقدوه رجولته في السجن !!
افقدوه رجولته في السجن !!
دموع لم تحسب لها حساب تقاطرت
تريد ان تلحقها اخواتها بـإصرار
لم تعقّب على شيء
وضعت وشاحها فوق رأسها وحملت حمود وخرجت !
تأسرها عينين خضراوين
تسمرت مكانها لم تستطع الحركة
حاولت ولكن لا لم تستطع ان تحيد بصرها عنه !
رعشة تملكت يديها
كتمت انفاسها واستيقظت على يد حمود الصغيرة على خدها
ابتعدت في بؤس
تلقي بنظرة اخيرة على صاحب العينين الخضراوين
لم تستطع التنفس
ها هو آخر امل قد اولاها ظهره !

فيما حملها اخاها بين ذراعيه تتمنى الموت فها هي لحظة الخلاص قد حانت !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجزء الخامس و الأربعين

  أشعل سيجارة.. من أخرى أشعلها من جمر عيوني ورمادك ضعه على كفي .. نيرانك ليست تؤذيني كان يستيقظ هذه المرة بلا كوابيس ، بلا اجهاد ، المرة الو...